عندما يصل القطار إلي كوبري كفرالزيات. فهو يبلغ منتصف المسافة بين القاهرةوالإسكندرية. ويتوسط الدلتا. موقع له تميزه بين المدن المصرية. وهو ما قد يعطي لنظرة مبدعيه إلي الواقع الثقافي المصري تعرفاً حقيقياً. موضوعياً. واستشراقاً لآفاق المستقبل. يقول الروائي محمود عرفات: زمان كان عندنا مدارس تمثل رافداً حقيقياً للثقافة ففيها كان يتم اكتشاف المواهب الرياضية والموسيقية والفنية من خلال الأنشطة المتخصصة المختلفة. وكانت هي المفرخ الحقيقي لنجوم المجتمع. الدوري الرياضي في المدارس والجامعات لم يكن يقل أهمية عن النشاط الرياضي في الأندية الكبري. كما كانت حفلات نهاية العام بالمدارس حدثاً مهماً نترقبه بشغف.. ومن المعروف أن الفنان محمد فوزي لمع في المسابقات التي كانت تجريها وزارة المعارف بين المدارس المختلفة.. لكن الأمر اختلف بعد انهيار التعليم واختفاء دور المدرسة. حيث أصبحت المدرسة مجرد مبني وسجلات لتسجيل بيانات الطلاب الملتحقين بها. تمهيداً للإشراف علي امتحاناتهم. أصبحت مجموعات التلاميذ تجوب الشوارع ليلاً ونهاراً وهم يخرجون من درس خصوصي ليسرعوا للحاق بموعد درس خصوصي آخر.. النتيجة الطبيعية لذلك هي تجفيف أهم روافد الثقافة في الوطن. ولا يبقي أمامنا من روافد الثقافة غير قصر الثقافة الذي يقدم ميزانية هزيلة لممارسة النشاطات الثقافية المختلفة. ولا يتوقف الأمر عند قلة المبالغ المرصودة. بل إن هذه الميزانية لا تتدفق في نسق زمني يتيح لمجلس إدارة نادي الأدب وضع برنامج يفي بتطلعات الشعراء والأدباء الفنانين. ومن المنطقي أن الميزانيات الهزيلة لا تمكن نادي الأدب من إصدار مطبوعة محترمة لنشر إبداعات أعضائها.. وتعتبر النوادي الاجتماعية أحد الروافد الثقافية المهمة. لكنها لا تقوم برعاية أي نشاط ثقافي. فإذا حدث فإن الأمر يبدو كمحاولة لإبراء الذمة من تهمة عدم الاهتمام بالثقافة.. ولا شك أن انهيار التعليم تسبب في انحسار الثقافة. حيث لا يتخرج من المدارس والجامعات من يدرك أهمية القراءة.. كما أن أعداداً كبيرة من الخريجين لا يجيدون القراءة. بما يهدد مهنة الكتابة نفسها.. فكيف نكتب إذا لم يكن هناك من يقرأ؟ وكيف يتحقق التفاعل الثقافي المجتمعي بين المبدع والمتلقي حيث يتناقص المبدعون والمتلقون معاً؟ وإذا كنا نلجأ للري بالتنقيط توفيراً للمياه التي تتسم بالندرة. فإن التثقيف بالتنقيط يصبح خطيئة. إذ أن المجتمع بحاجة إلي تيار متدفق من الثقافة ليبلل عروق المجتمع النهمة إلي المعرفة. أضاف: أتأمل الثقافة الآن مثلما أرقب سيارة تعود إلي الخلف وهي تطلق رسالة مسجلة: "احذر السيارة تعود إلي الخلف". وأسأل نفسيك ما العمل؟ وأجد الإجابة الفورية: لا مفر من العودة إلي العمل الأهلي الثقافي. وأعود إلي ثلاثينيات القرن لماضي عندما أنشأ الفنان محمد ناجي أتيلييه الإسكندرية عام 1934م. ثم قام هو نفسه بإنشاء أتيلييه القاهرة عام 1952م. ولا يستطيع أحد أن يشكك في الدور التنويري الذي قام به كل من أتيلييه الإسكندرية وأتيلييه القاهرة من تاريخ الإنشاء وحتي اليوم. ولعل تجربة إقامة جمعية أهلية باسم "شعر" تحسب للشاعر محمود شرف لذي استطاع من خلالها إقامة أول مهرجان دولي للشعر بطنطا في أكتوبر الماضي. يتحدث الشاعر د.كمال علي ناصر عن النظريات في ماهية الثقافة وكينونتها وأدوارها في كل مجتمع وأنها تخضع لعوامل عديدة. منها الثوابت التي تتعلق بماهيتها وكينونتها وروافدها المتعددة. ومنها المتغيرات التي تتعلق بأدوارها وفعاليتها وطرق تأصيلها وتبسيطها وغرسها في أعضاء المجتمع. حتي تأتي بثمرها المرجو منها. فتصير هي العين الراعية الواعية والمحركة لديناميكية المجتمع. لا شك أننا شريحة المجتمع من القادة والمسئولين ومقدمي الخدمة لا يخفي علينا ثوابتها ولا متغيراتها. وتحمل أوزار خفوتها وتشويهها. وعدم حراستها لتوصيها لأفراد المجتمع ومن هذا المنطلق يبدأ علاج قصور الثقافة. التي تحمل علي عاتقها الكثير من أمانة هذا الحمل الثقيل. الذي لا يجوز لها أن تحمله وحدها. لتتنصل باقي مؤسسات الدولة والمجتمع عن دورها في هذا الاتجاه.. ويمكننا أن نحدد بعض أسباب القصور. ومنها: غياب المشروع القومي للثقافة. وعدم وضعه كأولوية استراتيجية. ومعوقات عمل الفريق القائم بالعمل. وقصور الدعم المالي والمعنوي. وغياب لغة التواصل بين الفريق والمجتمع ما أدي إلي عزلة الفريق. وانصراف المجتمع عن الفريق بعد تشرذم أعضائه. وفقد روح التواصل بينهم. أما الشاعر والناقد أحمد علي منصور فيري أن الحديث حول واقع أداء قصور الثقافة لابد أن يطرح في إطار واقع الثقافة بشكل عام في مصر. بل والوطن العربي بأجمعه. حيث لا تتجرأ وحدة الثقافة العربية التي تمثل الثقافة المصرية رافدها الأهم. ويمثل التراث العربي جذرها الحي. ومن ثم فإن سؤال الثقافة لابد أن يطرح في الإطار العربي. بحيث لا يصبح مسئولية أجهزة الثقافة المحلية وحدها. وإنما جميع المؤسسات العربية الرسمية والأهلية. وبدعم وتخطيط مباشر من الحكومات والأنظمة الحاكمة. وباستراتيجيات واضحة وجادة من جامعة الدول العربية. تخطيطاً وتنفيذاً ومتابعة. ومن المنظور الخاص. وليكن علي المستوي المصري الذي يعنينا في هذا السياق. فإن أي حديث حول أزمات الثقافة وأجهزتها يعد هامشياً علي رغم أهميته. حيث لا ينفصل الهامش عن المتن. وإنما لابد أولاً من استيفاء موضوع المتن. بالنظر إلي قيمة الثقافة في المجتمع ودور الثقافة في التنمية والتقدم. وجوهرية الثقافة في رسم الخطوط العامة والأساسية للحضارة والمدنية. حتي يتحقق أولاً شرط الإيمان بأن لا حياة بغير ثقافة. ولا ثقافة بغير إبداع. ولا تقدم ولا تنمية بغير جناحي المعرفة» العلم والثقافة بكل مظاهرها وأجناس إبداع نخبتها. ومما يؤسف له أن الأقطار العربية. ومنها مصر. تنفق مليارات الدولارات علي مشروعات التنمية بالاقتصار علي البني التحتية المادية الأسمنتية. ومازال معدل التقدم صفراً أو يكاد. دون أن تصل الحكومات للسر الأكبر في سبب ضياع الأموال والجهود دون نتائج ملموسة تثبت لنا قدماً علي خارطة التقدم العالمي في سائر المجالات. حتي انتهي مآلنا إلي أن أصبح الوطن العربي مفرخة كبري للتطرف والتخلف.. ومن كارثة لكارثة نظل نثرثر حول ضرورة مواجهة التخلف والتطرف بالفكر والثقافة وتحرير العقل العربي من الأوهام. إنني أكتفي في هذا السياق المحدود بالدعوة إلي دين الثقافة. وعقيدة الإبداع. والإيمان بالحقيقة التي نتغافل عنها. وهي أنه لا مستقبل للوطن. ولا نهوض لأمة إلا بوضع قضايا التعليم والثقافة والابداع علي رأس أولويات الدولة.