للمقاهي في حياتنا الثقافية دور قديم يعود إلي ما قبل عصر التنوير. عندما كانت المصاطب موضعاً للقاءات. والراوي الشعبي ينتقل من مقهي إلي آخر. وأرخ نجيب محفوظ لغياب الراوي عن عالم المقاهي في زقاق المدق. وكان للمقاهي دور بارز في حياتنا الثقافية والسياسية منذ أواخر القرن التاسع عشر. وهو ما انعكس في جروبي عدلي الذي تحوَّل إلي بؤرة ثورية أثناء التهيؤ لثورة 1919 وبعد قيامها. وبار اللواء الذي تردد عليه كبار مفكري وأدباء العصر. ومقهي الجمال الذي شهد جلسات الحكيم وتيمور. ومقهي ريش الذي كانت ذروة أنشطته حين اختاره نجيب محفوظ بدلاً من كازينو أوبرا ومقهي فينكس. والأمثلة كثيرة.. لكن دورها شحب في تعاظم الندوات الثقافية وكانت الريادة الواضحة فيها لندوة المساء ثم بدأت ندوات المقاهي تستعيد عافيتها. لا لتقلل من دور ندوات الجمعيات الثقافية. وإنما لتضيف إليه. يشير الأديب الكبير يوسف الشاروني إلي ندوته الأسبوعية في مقهي كوستا بشارع جامعة الدول العربية لا توجد ندوات في هذا اليوم فندوتنا لا تتعارض إطلاقاً مع أية ندوة أخري فضلاً عن أنها تخلو من المحاضرات والنقاشات التي يعد لها جدول أعمال. إنها لقاءات إنسانية حميمة بين مجموعة من الأصدقاء المثقفين. يدور فيها الحوار عفو الخاطر. وأن تركز في القضايا الثقافية والفكرية والإبداعية المختلفة. ويري د.عبدالناصر حسن أن تجمعات المقاهي أصبحت الآن بالفعل أشد تأثيراً. وأكثر حميمية. وتحمل إمكانية عرض بعض أفكارنا عند مناقشة نص إبداعي جديد. يقرأه أو يقدمه لنا صاحبه فنناقشه. وأحياناً يتناول الحديث قضايا دينية أو سياسية. المهم هو فكرة التواصل بين مجموعة من الأصدقاء. كأنهم في استراحة محارب لمدة ساعتين أو أكثر.. ثمة جلسة في مقهي البستان تضم مجموعة من الأصدقاء. وثمة جلسات أخري في العديد من الأماكن. قد تخلو من الانسجام الفكري الذي كان سمة الجمعيات الأدبية في الستينيات. ويذهب د.حسين حمودة إلي أن دور المقاهي الثقافية الراهن. قد اختلف إلي حد ما عن دورها في فترات قديمة. وذلك لأسباب متعددة. منها أن وسائل الالتقاء بين المثقفين الآن قد تعددت وتنوعت. ولم تعد مقصورة علي المقاهي فقط. بل ولم تعد بحاجة إلي اللقاء الفعلي. فهناك لقاءات افتراضية علي وسائل الميديا الحديثة. يضاف إلي ذلك صعوبة الانتقال من مكان إلي آخر. مع ما نعرفه من الزحام وأزمات المرور وغيرها.. ربما هناك بعض اللقاءات الثقافية في بعض المقاهي. لكن هناك لقاءات أخري بين المثقفين لا تتجاوز حدود التقارب الإنساني. وبعضها لا يهتم كثيراً بمناقشة أمور الثقافة. وفي تقدير الشاعر أحمد مبارك عن ندوات المقاهي أنها تكمل دور الندوات في المؤسسات الثقافية. وبخاصة في قصور الثقافة. كما نعلم فهناك مجاملات بين المشاركين في الندوة. وللأسف فإن أي أديب يغضب لو واجه النص الذي ألقاه. أو الكلمات التي عبر بها عن وجهة نظره. نوعاً من الملاحظات. وإن كنت أوافق علي ضرورة مراعاة الحساسيات الشخصية. فلا أواجه صاحب القصيدة المكسورة بأنها كذلك. وإنما ينبغي أن تنتهي الجلسة. وأهمس لصاحب القصيدة. صديقي. بحاجة قصيدته إلي تقويم. صديق ينصح صديقه ولا يوبخه. والحق أن تجمعات المقاهي لا تنفي أننا نحضر الندوات العامة. أو نغفل أهمية تلك الندوات. بل إنها تكمل دورها. وأذكر أن الناقد الراحل عبدالمنعم شميس كتب عن المقاهي الأدبية في الستينيات. فأبرز الفعاليات التي حققتها. والأجيال المبدعة والناقدة والدارسة التي تكفلت بتقديمها إلي الثقافة العربية. واللافت في تقدير الروائي وائل وجدي أن ندوات المقاهي تختلف عن الندوات التي تنظمها الجمعيات الثقافية بأنها لا تخضع لمنهجية ولا روابط. فالنص يقدم للقراءة. والآراء تشرق وتغرب في كل الموضوعات التي يدور حولها الحوار. وبهذه الكيفية يبدو أداء كل من المقهي والجمعية الثقافية مكملاً للآخر.. خلاصة الأمر أن الحركة الثقافية في بلادنا. والأعداد الوفيرة من المبدعين والنقاد والدارسين تستدعي الإفادة من كل الفرص والإمكانات لتنطلق الأصوات إلي أقصي مداها. معبرة عن قيمة الكلمة في حياتنا. والدور الذي يجب أن تؤديه.