صدق من قال إننا نجحنا في هدم النظام القديم لكننا لم ننجح بعد في إقامة النظام الجديد الذي نتطلع إليه.. والسبب واضح بالطبع.. فالقوي السياسية والثورية كانت مجتمعة علي رأي واحد في لحظة الهدم وإسقاط النظام.. ثم اختلفت رؤاها وتفرقت كلمتها في لحظة البناء.. ولذلك لم نتقدم خطوة واحدة للأمام في طريق انجاز النظام الجديد. وبدلا من التعاون والتوافق دخلنا في دائرة الصراع الحزبي والمكايدة السياسية.. كل طرف خائف من الطرف الآخر وفاقد الثقة فيه.. ولم تنجح الأطراف المتصارعة إلا في إثارة البلبلة والفتن بين الناس.. فكثر الجدال حول الدولة الدينية أم الدولة المدنية قبل أن نتقدم خطوة في بناء الدولة ذاتها.. وصار أخشي ما نخشاه أن تسقط الدولة لو استمرت حالة الفوضي الحالية وانتهينا الي الفشل .. فلا نجد في آخر النفق دولة دينية أو مدنية. الأداء السياسي للقوي المتواجدة علي الساحة حتي الآن غير جاد وغير ناضج.. ولو كان جادا لرأينا سباقا في عرض البرامج والسياسات والأفكار مع اقتراب موعد الانتخابات البرلمانية.. لكن الواضح أن أحدا حتي الآن لم يأخذ مسألة الانتخابات مأخذ الجد.. ولم يعطها ما تستحق من اهتمام واستعداد.. رغم أننا جميعا ندرك أن هذه الانتخابات هي المقدمة الأولي للديمقراطية .. أقصد بناء النظام الديمقراطي الذي نريده. الديمقراطية لم تسقط علينا من السماء .. ولم تصنع في ميدان التحرير.. ميدان التحرير هو ميدان الثورة وإسقاط النظام.. أما بناء النظام الديمقراطي فيحتاج الي مؤسسات وتنظيمات وترتيبات وانتخابات.. وهذا لون آخر مهم جدا من ألوان النضال السياسي.. ووجه آخر مهم جدا للثورة حين تريد بناء النظام الذي يعبر عنها. مصر اليوم في أمس الحاجة الي حكومة قوية قادرة علي تلبية احتياجات الجماهير وقادرة في الوقت ذاته علي فرض وصيانة النظام العام.. وهذه الحكومة القوية لن تأتي الا من خلال الانتخابات ومن ثم تكون حكومة منتخبة.. تستند الي قاعدة شعبية عريضة.. سواء أكانت قاعدة الأغلبية أو قاعدة ائتلافية. وهذه الحكومة لكي تنجح ويقتنع بها المواطنون لابد أن تكون لها رؤية وبرنامج وذات مسئولية محددة وحائزة علي ثقة البرلمان.. حتي يمكنها أن تتخذ قرارات ثورية تحقق البرنامج السياسي الذي انتخبت علي اساسه.. ومن الطبيعي ان هذا البرنامج سوف يرضي قوما ويغضب آخرين.. وهؤلاء الغاضبون سيكونون ضد الحكومة وسيحاولون إسقاطها.. لكنهم لن يقدروا علي ذلك الا من خلال تحرك مؤسسي في البرلمان وليس من خلال الهتافات والشعارات. إن كل القوي السياسية والوطنية تدرك جيدا أن الحراك الثوري لن يكتب له النجاح والنصر الا اذا تم تحويله الي مؤسسات ديمقراطية منظمة تمارس عملها من خلال قواعد وقوانين ولوائح.. وتدرك ايضا انه كلما طالت الفترة الانتقالية الاستثنائية الحالية طال بقاء السلطتين التنفيذية والتشريعية في يد المجلس الأعلي للقوات المسلحة الذي يريد انهاء هذا الوضع في اقرب فرصة.. لكن هذه القوي للأسف مازالت تتلكأ في استعداداتها للانتخابات القادمة.. وتتلكأ في الاتجاه الي بناء المؤسسات الديمقراطية. والسبب المعلن لذلك هو عدم جاهزيتها للانتخابات.. وخشيتها من سيطرة الاخوان والاحزاب الدينية كما أن القوي الثورية الشبابية وتنظيماتها غير مستعدة حتي الآن لخوض الانتخابات .. وهذه في الواقع اسباب واهية خصوصا بعد أن تم تشكيل التحالف الديمقراطي من 25 حزبا في قائمة انتخابية واحدة تضم الاخوان... وبعد ان تم الاتفاق علي ان تجري الانتخابات القادمة بقوائم تتسع لأكثر من حزب.. وتقسيم مقاعد مجلس الشعب الي 50% بالقائمة و50% بالفردي.. وهو ما يتيح الفرصة امام قادة الثورة ان يرشحوا أنفسهم في القوائم الائتلافية ان ارادوا أو مستقلين .. وان يفوزوا. لكن الواضح ان هناك حالة عامة من الكسل السياسي.. وهناك من يستسهل النضال بالحناجر والهتافات خشية نقل النضال الي مجاله الصحيح: الالتصاق بالشارع والارتباط بإرادة الجماهير وصولا الي صناديق الانتخابات كما تقضي الاعراف الديمقراطية. هذا هو الطريق الصعب الذي يخشاه الكثيرون.. ويفضلون عليه الحال القائم.. وهو حال لن يوصلنا الي شيء.. ولن يلبي مطالبنا.. فكلما دار حوار مع ائتلاف ثوري أو جماعة ثورية صرخت الجماعات الاخري بأنها لا تعبر الا عن نفسها وليس لها قاعدة بين الثوار.. فمعيار مقياس الشعبية غائب تماما.. وكل يدعي وصلا بليلي.. وليلي لا تقر لهم بذاك.. كما قال الشاعر. ومع كامل احترامنا للدكتور عصام شرف ولحكومته قبل التعديل وبعده فإن الحقيقة التي لا يمكن اخفاؤها هي ان هذه الحكومة قدمت ومازالت تقدم من الوعود والآمال والنيات الحسنة أكثر مما قدمت من الأفعال.. بل كانت أفعالها احيانا تتناقض مع اقوالها ووعودها .. وما حدث في الموازنة العامة للدولة ومع المعاشات والحد الأدني للاجور خير دليل علي ذلك. ولن تستطيع هذه الحكومة في قادم الايام أن ترضي كل الفئات والطبقات.. ولن تستطيع علي الجانب الآخر ان تعلن انحيازها السياسي في هذه المرحلة.. والسبب في ذلك أنها لم تأت منتخبة علي برنامج واضح.. كما انها ليست مسئولة امام برلمان يوجهها ويساندها بأغلبية شعبية متبلورة. لهذا.. فإن الواجب الوطني يقتضي من الجميع الآن الاستعداد الجاد للدخول في مرحلة البناء الديمقراطي الحقيقي.. ومرحلة البناء تبدأ في الانتخابات وانهاء المرحلة الانتقالية الاستثنائية وتوجيه الشكر الي المجلس الأعلي للقوات المسلحة علي جهوده في ادارة شئون البلاد حتي يتفرغ لمهمته الاساسية.. وتأتي حكومة شعبية منتخبة بمهام محددة. هذا لا يعني طبعا الغاء ميدان التحرير وتكميم الافواه وتجريم التظاهر.. وانما يعني أن يكون هذا الحراك والنشاط السياسي قد تطور بوضعه في أطر ومؤسسات ديمقراطية .. فالفعل الثوري يمكن أن يفقد تأثيره اذا لم يتحول بسرعة الي ممارسة سياسية وديمقراطية علي اسس صحيحة ملتزمة بالقانون والقواعد والمعايير المعلنة والمعروفة للجميع. يجب أن ننتقل بسرعة من الشرعية الثورية الي الشرعية القانونية والدستورية والديمقراطية .. حتي لا نتوه وتتفرق بنا السبل. اشارات: * أجمل غزل في ثقافة العسكر وكفاءتهم كتبه د. مصطفي الفقي في "الاهرام" يوم الثلاثاء الماضي.. رغم أن البعض رأي أنه غزل لا يخلو من غرض!! * سبحان مغير الاحوال.. عمرو عبد السميع صاحب اشهر برنامج للهجوم علي الاخوان في تليفزيون مبارك يتغزل الآن في الاخوان ويفطر معهم ويدافع عنهم. * قناة السويس خط أحمر.. أي شغب في هذا المرفق القومي خيانة عظمي.