أتذكر وقتها أنني كنت أصلي . الظهر لا أدري . العصر لا أدري . كل ما أدريه أنني عندما دخلت المسجد كان الجو نهاراً . نعم كانت السماء مشرقة . مطبوعة بلونها الذي انطبع عليها . ولما انتهيت وخرجت من المسجد اصطدمت بريح "غربية" عاتية أحدثت ضجيجاً يملأ الأرجاء . وناس . كل الناس علي أشكالها وألوانها تهرول . تكر وتفر هلعة . ولم أعرف أين ذهبت الشمس ؟!!! . فقد راح الجو عتمة . عتمة وضعتني في عالم غيبي . مظلم . قاتم. أرضه صلبة ملغمة وسماؤه مغبرة . وتحرك الكل راجف القلب .. أجل : حتي أمي كانت تلبس لباسها الأسود جزعة وبجانبها ابني مرعوباً متخبطاً وسط الزحام . أذكر أن أمي بحثت بعد عن ابني طويلاً فلم تجده . وراحت تتمتم وكأنها تريد أن تصرخ : كان بجانبي ..؟!!! . ولعلها صرخت وزعقت . ثم سمعتها تولول : أين ذهب ابنك ؟!!! وأنا في مكان ضيق أكر وأفر كما الكل ما بين الكوبري وباب المسجد . ولا أنا بالذي استطاع أن يدخل المسجد . ولا أنا بالذي استطاع أن يتوقف . ولا أنا بالذي استطاع أن يعطي لأمه أي اهتمام . نعم لم أعر لتبرمها وأنينها أدني تكلف . كانت أمي شبه نصفين . نصف يبحث عن ابني شاكياً باكياً . ونصف مرعوباً كما الكل يحدق في المنظر المفزع البشع الذي هو أشد داهية من كل النوائب . كان القمر يتدحرج ببطء ملحوظ من السماء إلي الأرض . وكلما هبط كلما بهت ضوؤه حتي سقط فوق الكوبري مطفياً ومعه دوت فرقة متصلة ما بين الأرض والسماء.