يبدو أن سياسة الجزر المنعزلة آفة جميع الحكومات سواء قبل الثورة أو بعد الثورة. وتشكل هذه السياسة أحد موروثات الدولة العميقة. ونتائج هذه السياسة لا تقتصر علي تضارب القرارات الواضح للجميع لكنها تؤدي إلي إهدار المال العام في أحيان كثيرة. وخير مثال علي ذلك ما حدث في سوق الأرز خلال الموسم الأخير. فبعد أن وافقت الحكومة علي تصدير جانب من فائض محصول الأرز وأعلنت وزارة التجارة والصناعة عن مناقصة التصدير وتم إرساء المناقصة بالفعل علي عدد من المصدرين. فاجأت وزارة التموين الجميع بغلق باب التصدير بموافقة الحكومة أيضاً وبعد أيام قليلة من إعلان نتائج مناقصة التصدير من جانب الوزارة الشقيقة. المشكلة ليست في قرار وقف التصدير في حد ذاته فقد يكون للوزارة أسبابها الوجيهة الخاصة ومنها توفير احتياجات السوق المحلي أولاً وهو ما أكدته الوزارة. لكن المشكلة هي عدم التنسيق بين الوزارتين قبل فتح باب التصدير وقبل إغلاقه وعدم التنسيق أيضاً مع وزارة الزراعة في هذا الصدد لمعرفة حجم المساحات المنزرعة بالأرز وكمية المحصول وما إذا كان هناك فائض عن الاستهلاك من عدمه وإعلان ذلك بوضوح وشفافية ليتم بعد ذلك اتخاذ القرار الصائب بموافقة كافة الأطراف وبينهم المصدرين فالصالح العام يجب الصالح الخاص. الجانب الأخطر من ذلك والذي كشف عنه الدكتور أيمن فريد أبوحديد وزير الزراعة في لقائه مع أعضاء جمعية رجال الأعمال. هو أن السياسات الحكومية أتاحت الفرصة للتجار ليضاربوا بقوة علي أسعار الأرز في السوق ففي غياب سعر ضمان لمحصول الأرز للحفاظ علي اقتصاديات مزارعي الأرز. وفي ظل رفض الشركة القابضة للصناعات الغذائية التابعة لقطاع الأعمال العام شراء الأرز من الفلاحين. قام التجار بشراء محصول الأرز من المزارعين بأسعار تراوحت بين 1200 و1500 جنيه للطن ثم قاموا ببيعه لوزارة التموين من خلال المناقصات التي تعقدها وزارة التموين لتوريد أرز البطاقات التموينية بأسعار وصلت إلي نحو 3200 جنيه للطن. هذا بحسب ما قاله أحد أعضاء الحكومة وهو وزير الزراعة هذه المضاربات عادة ما تؤدي إلي ارتفاع فاتورة دعم المواد الغذائية وتذهب قيمة الزيادة إلي جيوب التجار وليس إلي مستحقي الدعم من الفقراء ومحدودي الدخل وبعد ذلك نسمع شكوي الحكومة من زيادة دعم الغذاء والذي يرجع في جانب منه إلي غياب السياسات الصائبة. الغريب في الأمر أن هناك سياسة أعلن عنها وزير التموين الأسبق الدكتور جودة عبدالخالق لمواجهة مضاربات التجار في سوق الأرز وهي شراء كميات الأرز اللازمة لتغطية احتياجات المقررات التموينية طوال العام من الفلاحين في بداية الموسم وبالسعر المناسب للمزارعين ثم تسليم الأرز إلي المضارب لتخزينه وبذلك يتم تأمين احتياجات بطاقات التموين من ناحية وبأسعار أقل بكثير من أسعار التجار فضلاً عن أن الفلاح يحصل علي حقه دون استغلال من جانب التجار. وقد أكد وزير الزراعة أنه سيتم تطبيق هذه السياسة في الموسم الجديد. ما حدث في موسم الأرز الأخير من تناقض في القرارات وعدم تنسيق في السياسات بين وزارة الزراعة والتموين والتجارة قد ينعكس بالسلب علي الموسم الجديد. فالفلاح الذي زرع الأرز ولم يحصل علي قيمة مناسبة لمحصوله قد يقلع عن زراعته في الموسم الجديد لينخفض الإنتاج عن الاستهلاك. وسنتحول إلي الاستيراد مثلما حدث مع محصول القطن الذي تراجعت المساحة المنزرعة منه بشكل كبير مما أدي إلي نقص كبير في الغزول المحلية وتحولت المصانع إلي استيراد القطن لترتفع الكميات المستوردة منه بمعدلات تجاوزت ألف في المائة بحسب بيانات جهاز التعبئة والإحصاء وكما حدث مع محصول القمح قبل سنوات. من فضلكم استفيدوا من أخطاء الماضي ولا تكرروا كوارث حكومات الدولة العميقة.