في 20 يناير 2007 كتبت في هذه الزاوية مقالاً بعنوان "لا.. النافية للخطر" بدأته هكذا: "لا أدري من أين يأتي الدكتور محمود أبو زيد وزير الموارد المائية والري- آنذاك- بالطمأنينة النفسية والثقة الزائدة التي يتحدث بها وهو يرد علي الاسئلة التي توجه اليه حول المخططات الاسرائيلية المعلنة للاضرار بالمصالح المصرية في منطقة حوض النيل.. فقد اعتاد علي استخدام "لا" النافية حين يتناول هذه المخططات.. مؤكداً وقاطعاً بأنه لا خطر منها ولا تأثير لها". وزدت علي ذلك قائلا: إن الحس الشعبي في مصر لا يطمئن أبداً للمخططات والتحركات الاسرائيلية المريبة من حولنا مثلما يطمئن وزير الري "د. أبو زيد".. والرأي العام في مصر ليس لديه الجرأة لاستخدام "لا" النافية للخطر الاسرائيلي بالشكل الذي يستخدمها به السيد الوزير.. قد يكون للدبلوماسية دواعيها.. وقد يكون للوزراء ورجال الدولة رؤي وتصورات مختلفة عن رؤانا وتصوراتنا باعتبار ان مواقع المسئولية تفرض منطقاً وقاموساً مختلفين.. لكن الحس الشعبي والرأي العام في حاجة دائماً إلي الشعور بالارتياح والطمأنينة.. ولن يأتي هذا الشعور إلا عندما تنسجم تصريحات المسئولين مع مكانة مصر وقدراتها ودورها التاريخي.. وعندما تعكس هذه التصريحات أن مصر لديها من ذخيرة الرد ما ينبيء عن ذخيرة الردع في مواجهة أي تهديد "كبر أم صغر" يتعرض له أمننا القومي. بعد أيام قلائل من نشر المقال تفضل د. محمود أبو زيد مشكوراً بالاتصال بي تليفونيا لتوضيح وجهة نظره.. كان رقيقاً ومتواضعاً.. ثم أرسل إليَّ رداً مكتوباً نشرته أيضا في هذه الزاوية نفسها يوم 3 فبراير 2007 تحت عنوان "رد من وزير الري". وكان مما قاله في الرد: أذكر دائما أن هناك أطرافا كثيرة متواجدة بالقارة الافريقية.. وبحوض النيل.. ولكل من هذه الأطراف أهدافه وتطلعاته.. وأنشطة هذه الأطراف مرصودة من الأجهزة المختصة شأن أي دولة في العالم.. وبالنسبة لمشروعات السدود وقيام اسرائيل بالمساعدة في انشائها فهو أمر غير موجود حتي الآن. وأضاف د. محمود أبو زيد قائلا: كثيراً ما نسأل عن احتمالية تصاعد الأمور في حوض النيل لدرجة الصراعات العسكرية علي المياه.. ودائما ما تكون اجابتي انه من واقع خبرتنا الفنية فإن الحوض به من المياه الكثير والذي يستغل القليل. وأن مبادرة حوض النيل التي نعمل تحت مظلتها الآن نعمل لتوفير جزء كبير من المياه في حجمه ولكنه صغير بالمقارنة لما هو متاح علي مستوي الحوض.. وإن من رأينا الشخصي ان الحروب علي المياه في حوض النيل أمر مستبعد في ظل روح التعاون السائدة بين دول الحوض. والآن.. وبعد مضي أربع سنوات وأكثر علي هذا السجال أظن أن الدكتور أبو زيد. وقد تحلل من مسئوليات المنصب الوزاري وعاد مواطنا عادياً مثلنا. لم يعد ينظر إلي الموضوع بعين اليقين والطمأنينة التي كان ينظر بها. لقد جرت مياه كثيرة تحت الجسور.. وتغيرت قناعات وثوابت.. وظهرت حقائق جديدة وتحالفات جديدة علي أرض الواقع.. وعاد د. أبو زيد إلي حلف التعامل مع دول حوض النيل من خلال وزارة الري.. وأغلب الظن أنه الآن يشعر مثلنا بالقلق من التوتر المتصاعد بين مصر والسودان من جهة وبقية دول الحوض من جهة أخري نتيجة حملات التحريض ضد أمننا القومي ومصالحنا في منابع النيل.. ولو أتيح للوزير الأسبق أن يعبر عن هذا القلق بكل صراحة فسوف يقول كلاما "أخطر من كلامنا". لقد أثبتت الأيام أن مخاوف الرأي العام وعدسه ومعلوماته عن عبث الأصابع الاسرائيلية القذرة في منطقة حوض النيل كانت في محلها.. بينما كانت طمأنينة الوزير الأسبق بعيدة عن الواقع.. وكان يقينه الظاهر يغطي علي حقيقة مؤلمة.. فروح التعاون لم تكن سائدة بين دول الحوض.. بالعكس كان هناك تآمر وتواطؤ.. ولابد أن نعترف بذلك ونواجهه قبل ان نفاجأ بأن الحروب علي المياه ليست مستبعدة. وإذا كان د. أبو زيد قد دعاني في رسالته الكريمة والودودة التي مازلت أحتفظ بها إلي أن أطالب زملائي الصحفيين بان يبتعدوا بقدر الامكان عن الأمور الحساسة التي تحتاج إلي رأي قومي فإنني أعتذر إليه لانني لم أفعل ما دعاني إليه.. ولم أستجب لنصيحته.. ولن أفعل هذا مستقبلا.. بل فعلت وسأفعل العكس تماما.. وأطلب من زملائي أن يقتربوا أكثر وأكثر من الأمور الحساسة التي تحتاج إلي رأي قومي.. فهذا واجبنا قبل أن يكون حقنا. لقد انتهي زمن احتكار الحقيقة واحتكار اليقين وادعاء الحكمة.. وعادت مصر إلي ابنائها دون وصاية من زعيم أو قائد أو وزير.. ذهب الزعيم وذهبت الحكومة.. وبقيت الأمانة معلقة في أعناق الرجال الذين يقدرونها حق قدرها.. ويحملونها بأمانة وشرف. وعلي الوزراء والرؤساء والحكومات التي ستأتي في عهد الثورة أن تكون أكثر شفافية.. وأكثر ارتباطا بالرأي العام وتفاعلاً معه.. بعد أن اثبتت التجارب أن الرأي العام هو الأصدق.. وهو الأبقي.. وهو الأقدر علي حماية مصالحه وأمنه القومي.