ترددت كثيراً قبل أن أكتب عن رجل الأعمال الكويتي الراحل.. المرحوم ناصر الخرافي.. الذي وافته المنية فجر الأحد الماضي بمستشفي السلام الدولي بالقاهرة عن عمر يناهز 67 عاماً اثر تعرضه لأزمة قلبية.. فهناك ألغام كثيرة تتفجر حين يكتب الصحفيون عن رجال الأعمال.. وهناك شكوك وشبهات.. لكنني حزمت أمري وحسمت التردد متحللاً من الحرج استناداً إلي تاريخ مهني في بلاط صاحبة الجلالة يمتد لحوالي 35 عاماً لم أتشرف خلالها بعلاقة مع أحد رجال المال والأعمال.. ولم أجرب التعامل في مجال الاعلان الصحفي مرة واحدة ولو من باب حب الاستطلاع. لم أكن أعرف الكثير عن السيد ناصر الخرافي.. لكنني قرأت تقريراً عن استثماراته في مصر فاجأني في نهايته بهذه العبارة: "لو عرف المصريون قدر مصر عند الخرافي لاقاموا له تماثيل في أشهر ميادينهم.. فهو من أول المستثمرين العرب الذين اتجهوا إلي الاستثمار في مصر". وجاء في التقرير أيضا ان الخرافي أحب مصر منذ أن كان طالباً في كلية "فيكتوريا" بالاسكندرية.. حيث كان والده يعمل في الصناعة والتجارة في عهد الرئيس الراحل جمال عبدالناصر الذي منح والده وسام الجمهورية من الطبقة الأولي. لم يكن الراحل الكريم إذن من ذلك الصنف من رجال الأعمال الذي اعتاد علي أسلوب "اخطف واجري".. وإنما كان محباً لمصر.. وراغباً في أن يعمل ويستثمر فيها ليفيد ويستفيد.. وقد شهد كثيرون بأنه كان ناجحا وصادقاً ونزيهاً. ومثل هذا النموذج يستحق منا أن نحتفي به ونشجعه.. ونفتح له صدورنا بكل ترحاب.. وعندما يقبضه الله إليه نحزن عليه وندعو له بالرحمة.. ويعزي بعضنا بعضا فيه.. لأنه اختار بملء إرادته أن يكون واحداً منا.. وأن يكون وفياً للبلد الذي تعلم فيه.. فجاء إلينا بأمواله لكي يقيم الشركات والمصانع التي تنتج ما نحتاج اليه من مواد غذائية وبتروكيماويات وزجاج ومواسير وأسمدة وغاز.. ورغم ذلك كان يقول لأصدقائه وللعاملين معه: "مهما فعلنا لن نوفي مصر حقها.. لأنها ببساطة هي صدر العرب وظهر العرب". وتقول المعلومات المتوفرة عن المرحوم ناصر الخرافي أن مشروعاته في مصر تتركز في الصناعات كثيفة العمالة.. وهناك أكثر من 285 ألفاً من المصريين يعملون بشكل مباشر في تلك المشروعات.. وبلغت قيمة الاستثمارات التي ضختها مجموعة الخرافي في مصر خلال الخمسين عاماً الماضية 38 مليار جنيه في 35 قطاعاً. وهو المستثمر العربي الوحيد الذي ضخ استثماراته بكثافة بعد أحداث الارهاب التي ضربت مصر في منتصف التسعينيات.. ويقال إن مجموعة الخرافي "الشركة القابضة المصرية الكويتية" حصلت مؤخرا علي رخصة لاقامة مصنع للحديد في مصر بطاقة انتاجية 6 ملايين طن سنوياً وبتكلفة مليار دولار. وقد توقفت عند تركيز مشروعاته في مصر علي الصناعات كثيفة العمالة.. فهذه رؤية رجل واع.. لديه قدرة علي استشعار الاحتياجات الاساسية للبيئة التي يعمل بها بعيداً عن الشعارات الرنانة.. فمصر بالفعل في أمس الحاجة إلي مشروعات كثيفة العمالة.. ليس بالضرورة أن تكون بأحدث التقنيات وتدار كاملاً بالكمبيوتر.. لكن الأهم أن تستوعب أكبر عدد ممكن من العاملين.. لأن هذه المشروعات والصناعات تقام في مجتمع يعاني من البطالة.. ولديه أعداد هائلة تبحث عن عمل فلا تجد.. وما يدفعه المستثمر في تكلفة التكنولوجيا العالية "هاي تك" يدفعه في أجور العمالة الكثيفة. ونحن في مصر نريد أن يأتينا من كل بلد عربي غني عشرات- بل مئات- من رجال الأعمال الراغبون في الاستثمار.. والقادرين عليه.. والموهوبين في الادارة والتشغيل.. بدلاً من أن يذهبوا بأموالهم إلي أوروبا وأمريكا.. فالعرب أولي بأموالهم واستثماراتهم.. ورجال الأعمال العرب الواعين برسالتهم ودورهم هم أفضل من يطبق شعارات التضامن العربي والأخوة العربية والعمل العربي المشترك.. ويحولها إلي واقع ملموس. ولكي يتحقق ذلك يصبح واجباً أن تعرف مصر كيف تفتح أبوابها لهذا الاستثمار العربي القومي النظيف.. علي طريقة ناصر الخرافي.. وأول خطوة في هذا الصدد أن يتم تأمين هذا الاستثمار ضد الطواريء والاجراءات الاستثنائية.. فلا تأميم ولا مصادرة إلا بالقانون وفي حالة المخالفات الواضحة.. حتي يكون رجل الأعمال مطمئناً علي أمواله وثرواته ومشاريعه.. ويكون متأكداً مائة بالمائة أن استثماراته عندنا أفضل من أن تذهب إلي أوروبا وأمريكا. ثم علينا إلي جانب ذلك أن نقدم التيسيرات الجاذبة لاخواننا العرب.. سواء فيما يتعلق باجراءات تأسيس الشركات ومنح التراخيص وتملك الأراضي والعقارات.. لكي يشعر الشقيق العربي أنه لا يعامل علي أرضنا معاملة الغرباء. وياليتنا نحدد يوماً في العام نحتفي فيه بالاستثمار العربي الناجح في بلادنا.. يتم فيه تكريم رجال الأعمال الذين شيدوا مشروعات ناجحة واستوعبوا قدراً أكبر من الأيدي العاملة المصرية.. ونكتب قصص هؤلاء المستثمرين الكبار ونحولهم إلي نجوم علي شاشات التليفزيون والصفحات الأولي للصحف حتي يحذو حذوهم كل من لديه القدرة علي الاستثمار في مصر دون أدني تردد. وربما يكون من المناسب أن نبدأ هذه المسيرة بتكريم الرائد الكبير المرحوم ناصر الخرافي في اعلامنا ومنتدياتنا.. وبدلاً من التماثيل التي نقيمها له كما يقترح البعض تعالوا نسجل انجازاته في أفلام وكتب.. ونذهب بالكاميرات إلي مصانعه ومشاريعه.. ونجعل العاملين فيها يتحدثون عن قصص نجاحهم. رحمه الله رحمة واسعة.. وأدخله فسيح جناته.. وجعل البيوت التي فتحها لكل من حصل علي فرصة عمل في ميزان حسناته.. ولا شك أن حب المصريين له ولأسرته سوف يزداد عندما يواصل أبناؤه مسيرته.. ويعملون علي توسيع مشروعاته في البلد الذي أحبه.