كادت تُنسيني كل ما علمته لأبنائي وغرسته فيهم من قيم وأخلاق وتلويحي الدائم لهم بتجنب الغش والغشاشين خاصة كلما اقترب موعد امتحانات نهاية العام مرددة عليهم قول رسولنا الكريم: "من غشنا فليس منا".. بداية كان لابد منها لتأتي بعدها التفاصيل حين لاحظ المراقب تأخر ابنتي عن الخروج من اللجنة فاقترب ليسألها: هل من مساعدة؟.. أجابته: أبداً هناك كلمة تقف أمامي وفيها حل لسؤال: هنا حاول المراقب تبسيط المعني لها لكنها رفضت وبشدة وعاجلته بقولها: "أنا عايزة ربنا يبارك لي في كل كلمة أكتبها بمجهودي" فنظر إليها بدهشة ولسان حاله يردد: أما زال في الدنيا أمثالك؟! تجاوزنا فترة الامتحانات لندخل في مرحلة القلق والترقب لموعد إعلان النتيجة يحدونا الرجاء في أن تحصل ابنتنا ليلي علي المجموع الذي يرشحها للكلية التي كم تمنت الالتحاق بها.. كلية الصيدلة.. وظهرت النتيجة وبدأ مكتب التنسيق أعماله لنفاجأ باستبعادها من الصيدلة علي "نصف درجة".. انهارت ابنتي وتحطمت معنوياتها بصورة دفعتني إلي الخروج عن النص حين عاتبتها قائلة: ألست أنتي ِمن رفضت مساعدة المراقب؟! رد منيّ أغضب والدها وراح يذكرني: ما هكذا علمنا أبناءنا يا أم ليلي؟! ثم.. ثم كان الحلم.. نعم شعرنا جميعاً وقتئذ بأنه حلم فبعد أسبوعين من قبول الأمر الواقع بل وانتظام ابنتي بالكلية الجديدة قرأنا خبراً بالجمهورية بعنوان " صدق أو لا تصدق لأول مرة صيدلة حلوان تنزل بالتنسيق نصف درجة".. استوقفتني عبارة لأول مرة ورأيت أنها جائزة السماء ل "سلمي" التي لم تعرف سوي التفوق طريقاً في دراستها وأحسنت في تقديم النموذج والمثل لأشقائها الصغار حين رفضت كل صور الغش الحميد منها والخبيث ولم تقبل سوي بمجهودها معياراً للتميز والنجاح. لقد التحقت صغيرتي بالكلية التي تحلم بها عن استحقاق ومازلت أتذكرها وهي تلميذة بالابتدائي حين وضعت أصابعها في أذنيها حتي تمنع نفسها من سماع مراقب اللجنة وهو يوضح بعض الأسئلة للتلاميذ وحينما سألها لماذا تفعلين ذلك؟ أجابت: بابا حذرني من الاستماع للأشياء الخاطئة!!.. إجابة فهمِيِ مغزاها المراقب ليصمت دون أن يعقب!! مواقف وراء مواقف كانت تزيدني اطمئنانا علي ان أبنائي كلهم -بفضل الله- يمضون في الطريق الصحيح تماماً مثلما وضعني أبي علي الطريق حيث لم يكف عن محادثتي عن كيف عاقبته جدتي وهو طفل صغير حين اقتلع من مزرعة إحدي الشجيرات من جذورها ودخل عليها البيت وكأنه يبشرها: "سأزرعها هنا".. تصرف طفولي غير محسوب تبعه صفع علي الوجه وجذب من اليد ليرشد الجدة عن طريق المزرعة التي انتزع منها الشجيرة حتي تعيدها إلي مكانها. درس استوعبه أبي جيداً في صغره ظل معه يتابع حال "الشجرة الصغيرة" وكيف باتت تنمو وتعلو في وضع مائل حتي صارت معروفة في بلدتنا بالشجرة المائلة!! .. ومثلما كانت جائزة السماء تنتظر ابنتي بدخولها الكلية التي تحلم بها كانت المفاجأة التي زفها إليّ والدي فقد اشتري الأرض التي تحتضن جذور الشجرة المائلة تلك التي تشهد علي أمانة جدتي وأن ما غرسته لم يذهب هباء. مدام وفاء - القاهرة المحررة : وكأنك قصدت أن تحملي رسالة لكل أم وأب إياكم ولحظات الضعف وأن بمجهود أبنائكم الطيب يستطيعون بلوغ أقصي الأماني بصرف النظر عن أسماء الكليات أو المعاهد. لقد غرست في أبنائك قيماً وأخلاقاً بات القابض عليها -هذه الأيام- كالقابض علي الجمر.. وما كان إلا أن يطيب غرسك بفضل الله ثم بفضل زوجك معك.. .. والمواقف التي مرت بها حبيبتك ليلي ذَكرتِك بقصة الشجرة المائلة وكيف كانت أساليب الجدات في التربية. تلك الاساليب التي تفوقنا فيها علي كثير من المتخصصين في طرق التربية الآن. .. وبعد لقد كان للمراقبين سواء الأول أو الثاني ان يدهشا من تصرف ابنتك وهما اللذان اعتادا علي ضبط هواة الغش في صفوف التلاميذ. لكنني بالطبع لا التمس العذر لهما بل احملهما المسئولية فيما يجري فليس هناك غش صغير واخر كبير.. أو كذباً بيضاء أو آخر سوداء فالاخلاق في النهاية لا تتجزأ.