لا أذكر متي. ولا كيف غاب الأبناء الثلاثة في شقة الطابق الثاني. يبدون - في طفولتي الباكرة - كأطياف. في صعودهم علي سلم البيت. ونزولهم منه.. لكن الملامح والتصرفات تغيب تماماً. فلا أذكرها.. ظل باب الشقة مغلقاً. لا يفتح - أو يوارب - إلا لومضات. يبين فيها محصل الكهرباء. أو بائع الخبز. أو البواب. ورأيت الأب بقامته الضئيلة وخطواته المتقافزة - في أيام متباعدة - وهو يمضي ناحية شارع فرنسا. أما الأم فقد لمحت شعرها الأبيض المهوش. ووجهها المائل إلي السمرة. وعينيها الخاليتين من الأهداب. وهي تكلم عم أحمد البواب علي باب الشقة فيما لم أتبينه. كانوا في حالهم. لا يزورون ولا يزارون. ولا يحاولون التعرف إلي أحد. حتي التحية تتحول في شفتي الرجل حروفاً مدغمة. حين يلتقي علي السلم بمن يلقي التحية. حتي النوافذ والشرفات. تعودت أن أراها مغلقة وأنا أعود إلي البيت من المدرسة. أو من اللعب في الشارع الخلفي. وقال أبي عصر يوم. في عودته إلي البيت: يبدو أن بقية سكان الطابق الثاني رحلوا إلي إسرائيل. إسرائيل؟! كنت أستمع إلي الراديو. وأتابع المناقشات بين أبي وأصحابه حول قرارات التقسيم والقدس ودير ياسين والشهيد أحمد عبدالعزيز ومعركة القسطل ودولة إسرائيل المزعومة. قلت: أليست إسرائيل عدوة لنا؟.. قال أبي بلهجة باترة: طبعاً.. قلت: لماذا إذن سافر سكان الطابق الثاني؟ قال أبي: لأنهم يهود.. إسرائيليون.. زوت أمي ما بين حاجبيها في دهشة: هل رحلوا ليكونوا أعدائنا؟! أعاد القول بلهجته الباترة: طبعاً. أخلت أمي وجهها للدهشة: لكننا لم ندس لهم علي طرف؟! أستعيد تلك الحادثة القديمة. وأنا أتابع ما يروجه الإعلام الصهيوني عن اليهود المصريين الذين أجبروا علي الهجرة. بعد أن صودرت ممتلكاتهم. كانت هجرتهم - في الحقيقة - جزءاً من المخطط الصهيوني الذي استهدف حرب المنطقة الوحيدة في العالم التي لم تضق بهم. ليصنعوا فيها ما أملته دعاوي وأساطير بالية.