أتاحت الطبيعة للإنسان المصري أن يعانق الاستقرار علي ضفتي النهر وأتاحت له أيضا أن يواجه التحدي في الحفاظ علي الأرض السوداء من أن تتهددها الأرض الحمراء أن تنتصر آلهة الشر علي آلهة الخير فهو يبني القنوات والجسور ويراقب الحبة التي بذرها وهي تنمو يوما بعد يوم ويحرص علي جماعية الحياة والعمل توقيا لأخطار الفيضان الذي قد يبتلع كل شيء أو الجدب الذي قد يبسط الحمرة علي الأرض السوداء الطيبة. فصول الفيضان بالتقويم القبطي هي توت. بابة. هاتور. كيهك وفصل انحسار المياه: طوبة. أمشير. برمهات. برمودة. وفصل الآلهة القصية "هذا هو اسمه" بشنس. بؤونة. أبيب. مسري ومسري هو الشهر الذي يحتفل فيه المصريون بوفاء النيل لأن النيل كان يعود ويتزوج الفيضان المتنكر في هيئة عروس من الشمع الملون. من هنا نشأت العقيدة الدينية في وجدان الانسان المصري حتي من قبل أن تنشأ الأديان فالحياة تتجدد ولا تفني والحي الذي لا يموت لابد أن يكون إلها. ومن الأقوال المأثورة: ان من أقام بمصر سنة وجد في أخلاقه رقة وحسنا ذلك لأن المصري قد أحب الحياة علي هذه الأرض بما تعنيه من استقرار وبما قد تحمله من تحد تنتصر فيه دوما إرادة الجماعة وتلك القوي الغيبية التي لابد انها ترعي الانسان وتمنحه المأكل وتعني بأمره في الدنيا والآخرة وحب الحياة يولد في النفس بالضرورة حساسية مرهفة إزاء الإنسان والأشياء ويفيض في داخلها بمشاعر مرهفة. رقيقة وهكذا دارت حياة الإنسان المصري منذ العصور الأولي: حماية الحياة التي أحبها ومغالبة الضعف والفناء بشتي صوره. بما يشكل تفسيرا للخاصية التي لازمت الإنسان المصري إلي سنوات قريبة وهي ارتباطه بموطنه. الانسان المصري مرتبط بالأرض "قراري" كما يصفه العقاد أي مرتبط بالقرار وقد هتف سنوحي في الأيام الغابرة: "لم تبق لي أمنية أعز من أن أموت في مصر التي ولدت فيها" وهذه هي الكلمات نفسها التي يقولها الآن كل مصري في الغربة وان تغيرت الكلمات. كان هدف الفتح العربي منذ البداية ما عبر عنه عمر بن عبدالعزيز: "إن الله إنما بعث محمدا صلي الله عليه وسلم هاديا ولم يبعثه جابيا" لم يستغل العرب أهل البلاد في شيء ولم يستحلوا من أموالهم لأنفسهم حتي في أثناء القتال شيئا تركوا نظام الضرائب والأعمال الإدارية في أيدي سكان البلاد من القبط. بالإضافة إلي ذلك حرص ولاة العرب علي مباشرة سلطتهم في حضور قادة أهل البلاد يناقشونهم ويبادلونهم الرأي ويعبرون في مناسبات عديدة عن صلات القربي والتراحم بين الحاكمين والمحكومين ويبدون إعجابهم بالبيئة المصرية وسماحة أهلها. وكان المنطقي أن تحقق تلك السياسة نتائج حاسمة وسريعة تمثلت في اعتناق الآلاف من المصريين الدين الاسلامي قبل أن يفتح العرب بلادهم وإذا لم يكن إسلام الكثيرين في البداية وليد تفهم واضح لمبادئ الاسلام بقدر ما كان رغبة في التخلص من ضغوط نفسية ومادية. فالمؤكد ان القرون الثلاثة التالية عمقت مفهوم الاسلام في نفوس الغالبية العظمي من المصريين حتي انه في نهاية القرن الثالث الهجري كان غالبية أهل مصر قد اعتنقوا الاسلام. ولعل أهم الآثار التي حققتها الثقافة العربية في مصر خروج الفكر المصري من الانعزالية التي فرضتها عليه الحضارات المستعمرة نفض عن نفسه دور التلميذ التابع وهو دور لم يكن له به صلة وكان يرفضه إلي دور المعلم المتبوع الذي كان له قبلا وهو دور قد تأهل له تماما منذ ألقي في أرضه السوداء الخصبة بذور المدنية الأولي. ونهضت القاهرة بدور قيادي في الثقافة العربية وتأكد دورها الجديد. القديم. في الوطن العربي. وفي العالم الإسلامي. وفي التراث الإنساني بعامة.