في هذه المحنة القاسية.. وفي هذا التوقيت الصعب.. يجب أن نتصارح ونفتح قلوبنا. إذا أردتم أن ينتصر الارهاب ويجني ثمار جريمته الآثمة فأكثروا من الحديث بلسان الطائفة والطوائف.. واجتهدوا بحسن نية أو بسوء نية في قسمة البلد الي مسلمين وأقباط.. أما إذا أردتم أن ننتصر علي الإرهاب.. ونقطع عليه الطريق حقا.. فتعالوا نتحدث بلسان مصر والمصريين. الحديث بلسان الطائفة تجزئة وانقسام.. والحديث بلسان مصر قوة وتوحد ومنعة.. وانتصار لمفاهيم الوطنية والمواطنة. مصر ليست مجرد أرض وناس وعلم ونشيد مثل الدويلات المستحدثة.. مصر تاريخ وثقافة ونموذج حياة.. والارهاب لم يستهدف في ضربته الغادرة ليلة رأس السنة مجموعة الأبرياء الذين استشهدوا أو أصيبوا أمام الكنيسة.. وانما استهدف المعني الذي تجسده مصر الوطن والتاريخ ونموذج التعايش.. والرمز الذي ظل عصيا علي مدي سنوات طويلة مضت علي الاختراق. وكلما سارت مصر مع موجة الثقافة الطائفية وكثر فيها الحديث بلسان الطائفة.. أغرقت نفسها في الانقسام بين عنصرين أو ثلاثة.. وشوهت نموذجها الجذاب.. وأعطت للمتآمرين عليها جائزة النجاح. ومن حسن الحظ ان المصريين عاشوا حالة مجيدة من التوحد عقب الجريمة الآثمة.. وهي حالة ينبغي أن نستثمرها ونبني عليها.. فقد أحس الجميع بالخطر.. وأدرك ان أمن الوطن لا يتجزأ.. وان الحقيقة التاريخية التي تقول ان مصر لكل المصريين هي الغطاء الكبير الذي يجب أن نتدثر به ليحمينا من ويلات الفتن والدسائس. ولعل في ردود الفعل التي خرجت من الفاتيكان والبيت الأبيض وفرنسا وايطاليا وبولندا والمجر والدول التي ستأتي فيما بعد ما يشير الي المؤامرة التي تحاك ضد مصر والتي تتخذ من حماية الأقباط ذريعة وهو ما جعل وزير الخارجية أحمد أبوالغيط يرد علي هذا الاستفزاز بقوله ان الاتحاد الأوروبي يؤجج الفتنة ومواقفه تجعله يشبه "نادياً مسيحياً". الرد القاطع علي الارهاب وعلي التآمر الغربي.. هو أن نحتمي بوحدتنا ونلوذ بالمشترك الثقافي والوطني والقيمي الذي يجمعنا في إطار الوطن الواحد.. ونقاوم بكل قوة قسمة البلد الي مسلمين وأقباط.. أو إلي مصريين ونوبيين. ولن ننتصر في هذه المعركة إلا بالوعي.. والعمل الجاد من أجل تأصيل الثقافة الوطنية في الوجدان الشعبي وايقاظ الضمائر لكي نفرق بين ما يتعلق بالقضايا الوطنية والقضايا السياسية. القضايا الوطنية يجب أن تكون محل إجماع ويقين.. ويأتي علي رأس القائمة فيها وحدة الشعب المصري بكل مكوناته.. والمساواة بين جميع أبنائه بصرف النظر عن العقيدة واللون والعرق والجنس.. فكل من يعيش علي أرض مصر فهو مصري.. له نفس الحقوق وعليه نفس الواجبات كما يقول الدستور والقانون. أما القضايا السياسية فلا بأس من الاختلاف حولها اختلافا سلميا لأنها تقوم علي الاجتهاد.. والاجتهاد يحتمل الصواب والخطأ.. والسياسة تحتمل كل ألوان الطيف مادام التنافس فيها يجري في إطار الأفكار.. والأفكار لا تجرم. العيب كل العيب أن تستخدم القضايا الوطنية من قبل بعض أطراف النخبة للمزايدات في الملفات السياسية.. ويتحول الحوار الثقافي والسياسي في غمرة الحماس الي حوار طائفي مدمر. ورغم الجرح العميق الذي خلفته جريمة رأس السنة.. ورغم المظاهرات والبيانات والأحاديث الطائفية التي واكبتها واستمرت بعدها.. وقد نلتمس لبعضها العذر من هول ما حدث من تدمير وتخريب ونزيف دم.. فإن الأمل مازال يحدونا الي العودة بسرعة الي الخطاب الوطني.. اقتناعا بأن ارتفاع النبرة الطائفية لن يحل مشاكلنا.. وطغيان الخطاب الطائفي علي الخطاب الوطني يزيد الوضع احتقانا. مازال عندنا أمل في العودة الي العقل.. والتزام حدود الوطنية والمواطنة.. والي إعلاء ثقافة الوطن فوق ثقافة التطرف والعنف وفوق الثقافة الطائفية.. والي التفرقة بين ما هو ديني وما هو طائفي.. فلكل انسان أن يتمسك بعقيدته وثوابت دينه وأن يمارس شعائره بكل حرية.. وعلي الدولة أن تيسر ذلك لكل مواطنيها بشكل عادل.. ولكن أن يتحول الدين أو العرق الي طائفة وان يوضع الانتماء للطائفة في مواجهة الانتماء للوطن أو منافسا له فذلك هو الخطر الذي يجب أن ننتبه له وأن نعالجه. مازال عندنا أمل في العودة الي مصر النموذج في التعايش المشترك.. مصر النموذج في اخوة الوطن بين كل أبنائها.. مصر التي عبر عنها شعراؤنا وقصاصونا في قصائدهم ورواياتهم فكانت إلهاما لاخوتنا في البلدان الشقيقة لكي يتعلموا كيف يسود الحب والتسامح مجتمعا متعددا علي أرضية المواطنة وليس علي أرضية المحاصصة والكوتة ومنطق الأغلبية والأقلية. مازال عندنا أمل في العودة إلي آذاننا.. الي خصوصيتنا.. الي مصر التي عرفها الأدباء والأجداد قبل "القاعدة" و"السلفيين" و"البوشيين".. مصر الواحدة وليس مصر الطوائف.. فهل نحن قادرون علي تحقيق هذا الأمل؟!