حفل اوركسترا براج الذي أقيم في المسرح الكبير يعد حدثاً مميزاً في تاريخ عروض هذا الموسم الموسيقية لأننا شاهدنا من خلاله أداءً جيداً من الناحية التكنيكية والأهم أن هذا الحفل عالي الجودة جاء بقيادة مصرية ينسب لها الفضل في إستمتاع عشاق الموسيقي بهذه السهرة المتميزة.. وأوركسترا براج للحجرة من الفرق العريقة في أورباحيث تأسس عام 1951 ويضم ريبرتواره اعمالا كلاسيكية عظيمة لهايدن وموتسارت وأعمال بيتهوفن الأولي بالإضافة لمؤلفات عصر الباروك كما ان الأوركسترا تطور في تكوينه وزاد عدده مما أتاح له تقديم أعمال مؤلفي الرومانسية المبكرة وأعمال مؤلفي القرن العشرين بالإضافة لتخصصه في تقديم المؤلفات القومية القديمة إلي جانب تقديمه لموسيقي عدد من المؤلفين المعاصرين حيث ان منهم من يكتبون خصيصاً للأوركسترا الذي يقدم ما يقرب من 40 حفلا سنويا في التشيك وخارجها حيث زار الولاياتالمتحدة وأمريكا اللاتينية وكندا واليابان وهونج كونج وكوريا وماليزيا وسنغافورة. والأوركسترا له العديد من التسجيلات التي حصلت علي عدد من الجوائز كما قام بالعزف معه العديد من السوليستات المشهورين وقاده عدد من القادة المرموقين وحاليا القائد الرئيسي له المايسترو بيري بوسبيشال. الأوركسترا يزور القاهرة لأول مرة ويقوده المايسترو المصري أحمد الصعيدي الذي كان وراء إعداد هذه الزيارة التي اعطت ثراء لهذا الموسم ونجح في أن يقدم حفلا متميزا وجاذبا لعشاق الموسيقي حيث جاء برنامجه متنوعا ومتناسبا مع التكوين العددي للأوركسترا ومع قدرات عازفيه التقنية.. كما انه شارك بالعزف المنفرد العازفة الفنلندية "لورا ميكولا" والتي ليست غريبة علي الساحة الموسيقية المصرية بل سبق أن شاهدناها في حفلات المانسترلي وأصبح لها جمهور معجب بأدائها. تضمن البرنامج 4 مقطوعات لأربعة من عظماء التأليف هم موتسارت "1756 1791" وبيتبهوفن "1770 1827" من العصر الكلاسيكي والمؤلف القومي انطونين ديفورجاك "1841 1904" وسيرجي بروكفيف "1918 5319" الذي يعد واحداً من أهم مؤلفي النصف الأول من القرن العشرين. بداية الحفل كانت مع افتتاحية أوبرا موتسارت الشهيرة "دون جيوفاني" والتي لها إرتباط بدولة التشيك حيث كان عرضها الأول في مسرح نوستيك بمدينة براج في 29 أكتوبر عام 1787 والأوبرا كوميدية من فصلين مأخوذة من اسطورة دون جوان ورغم أن الافتتاحية من رصيد فرق دار الأوبرا المصرية إلا أن أداءها هذه المرة جاء متقنا موضحا كل عناصر الجمال بداية من الاستهلال الدرامي الإيقاعي القوي التي يشير إلي المواقف التمثيلية في هذا العمل ثم المقدمة القوية التي تتخذ فيها الموسيقي خطين متناقضين من ألحان بسيطة وأخري مركبة تتفق مع طبيعة هذا العمل الخفيف ثم تأتي الخاتمة القوية التي من المفترض أن تمهد للعمل الدرامي ولكن هنا تمثل ختاماً قوياً يشعل حماس الجمهور ليصفق بحرارة لهذا الأداء الجميل الذي يعد خير تمهيد للفقرة التالية والتي كانت "كونشرتو البيانو الثالث" لبيتهوفن والتي عزفته "لورا ميكولا" والتي واضحا أن العمل من رصيدها الفني وأيضا من الرصيد الفني للأوركسترا والمايسترو حيث تم تقديمه بإحترافية قلما نشاهدها هذه الأيام في حفلاتنا الموسيقية واستطاع الثلاثة أن يقدموا العمل بشكل نموذجي بداية من حركته الأولي السريعة التي يظهر فيها اللحن الاساسي التي تقدمه الوتريات ثم تليها آلات النفخ الخشبية والكورنو ثم يظهر اللحن الرئيسي الثاني من خلال آلة الكلارينت ليتابع المستمع الألحان الواضحة ولتقدم عارفة البيانو استعادة للالحان باسلوب هاديء وتؤدي الكادينزا بتفاصيلها المميزة من نغمات مرتفعة وأخري ذات اهتزازات لتنتهي بهدوء ثم ينفرد البيانو ببداية الحركة الثانية التي تتمثل فيها عبقرية بيتهوفن في الإيقاع البطيء وتنجح العازفة في تقديم الفكرة الموسيقية ويصاحبها بعد ذلك الأوركسترا ليكرر الفكرة ويستمتع الجمهور بحوار لحني تبادلي بين المجموعات الآلية والبيانو يتضح بصورة أكبر في الحركة الثالثة التي تتميز بغنائية تم أداؤها بروعة جعلتنا نشعر بعبقرية بيتهوفن التي بدأت بذورها تتضح في هذا الكونشرتو. الفاصل الثاني من الحفل هبت علينا فيه نسمات القرن العشرين فرغم أن السيمفونية رقم 1 لبروكفيف يطلق عليها الكلاسيكية وقدمها عام 1917 علي النمط الكلاسيكي إلا أن مفرداته المعاصرة تفرض نفسها علي العمل فتعطيه تميزاً يختلف عن النمط الكلاسيكي التقليدي مثل التغيير المفاجئ للسلالم الموسيقية والتلوبن الاستعراضي وهنا تتفوق مجموعة الكمان التي عليها عبء كبير في الحركتبن الثانية والثالثة والذي العزف فيها يحتاج إلي مهارة ويقظة من المايسترو. أما الختام فكان يبدو انه هدية من هذا الفريق وتحية له في آن واحد حيث تم عزف "المتتالية التشيكية" للمؤلف التشيكي "ديفورجاك" والتي ابدعها عام 1879 وقدمت لأول مرة في براج في 16 مايو من العام نفسه وهي نموذج جيد لموسيقاه الجذابة ذات الروح القومية والخطوط البنائية الواضحة والألحان الجميلة التي لا تبرح الذاكرة وكان طبيعياً أن يؤديها هذا الأوركسترا بتمكن وإقتدار ولكن مبعث فخرنا القائد المصري الصعيدي الذي قدمها بتفسير وفهم واضح وكأنه من أبناء التشيك الذين تربوا علي موسيقات هذا المؤلف القومي البارع.