طرح البيان المنسوب إلى تنظيم قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين الذي يتزعمه الأردني أبو مصعب الزرقاوي في تبنيه لضرب شمال "إسرائيل" بالصواريخ انطلاقا من الأراضي اللبنانية عدة دلالات هامة في طبيعة العلاقة الهيكلية التي تربط فرع التنظيم بالقاعدة الأساس التي يتزعمها أسامة بن لادن ويدير آلياتها المصري أيمن الظواهري، وكذلك حول توجهات التنظيم الفرع وتطلعاته المستقبلية. هذا من ناحية كما يطرح هذا البيان ذاته ويثير في الذهن من ناحية أخرى روزمة من المحاذير والمخاطر إذا ما صدق نسبته إلى التنظيم وكان مؤشرا على مزيد من العمليات داخل"إسرائيل" ولم يكن مجرد حدث لإثبات الوجود والقوة. ولا يمكننا بطبيعة الحال في ظل ساحة سياسية ملئها غبار التخوين وسوء الظن وتحميل الأفكار ما لا تحتمل الخوض في بيان تلك المحاذير دون المرور على جسر من الثوابت والمنطلقات التي تحدد الإطار العام لما نريد أن نثبته هنا حتى لا تضيع الأفكار والكلمات في سفسطة ونقاشات جانبية عقيمة تنسينا الأصل وتلهينا ببعض العوارض. دلالات البيان يثير البيان الذي تداولته عدة مصادر إعلامية يوم الخميس 29/12/2005 نقلا عن موقع معروف بتبعيته لتنظيم قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين ويتبنى فيه التنظيم "الغزوة الجديدة على الدولة اليهودية بقيادة ثلة من ليوث التوحيد أبناء تنظيم القاعدة الذين أطلقوا عشرة صواريخ من أرض المسلمين في لبنان على أهداف منتخبة شمال دولة اليهود" مساء الثلاثاء 27/12/2005 دلالات هامة وخطيرة، يمكن إجمالها في عدة نقاط كالتالي: أولا: أن التنظيم الذي تزعمه الزرقاوي والذي شهدت أرض الرافدين نبتته الأولى، وكانت عليه البيعة لزعيم القاعدة أسامة بن لادن يحرص على الانتقال من دائرة ضيقة محدودة بأرض العراق إلى مجال إقليمي لينافس بذلك نظرائه في الميدان كقاعدة الجهاد في أوروبا وغيرها، وهو ما يثبت إلى حد بعيد صحة النظريات التي تروج لانتقال القاعدة من مجرد تنظيم هيكلي محدد المعالم والسمات إلى شبكة ممتدة ومتشعبة تصعب إلى حد كبير من قدرة الأجهزة الاستخباراتية والأمنية على ملاحقتها أو توجيه ضربات قاصمة إليها، حيث ( لا مركز) يمكن استهدافه. ثانيا: عند التأمل نجد التنظيم خلال عامي 2004 و2005أراد فيما يبدو أثبات قدرته ونجاعته وأحقيته بحمل لواء القاعدة في منطقة الشرق الأوسط، حيث تمكن من توجيه عدة ضربات متفرقة لإثبات "حدوده الإقليمية" وحماية عرينه فيما يبدو من هجمات قد يطرأ لجماعات أخرى أن تنافسه فيها. فقد أصابت سهامه مصر مرتين الأولى في طابا في 8/10/2004والثانية في شرم الشيخ يوم 23/7/2005، كما تمكن التنظيم من الضرب في عمق الأردن باستهداف ثلاث فنادق مرة واحدة يوم الأربعاء 9/11/2005، وضرب ميناءي العقبة الأردني وإيلات الإسرائيلي في 19/10/2005، وضرب قريبا شمال "إسرائيل" بالصواريخ انطلاقا من لبنان. وهذه العمليات في ناحية أخرى منها تثبت قدرة التنظيم على اختراق عدة دول عربية بعضها معروف ومشهود لأجهزته الأمنية والاستخباراتية بالقوة، فخلال عام واحد تمكن التنظيم من زرع عناصره في مصر والأردن ولبنان. ثالثا: تلمح هذه العمليات إلى قدر من الاختلاف ليس بالبسيط ولا الذي يمكن تغافله بين توجهات القاعدة الأم بقادتها المعروفين وبين توجهات الزرقاوي، وهو الاختلاف الذي المح إليه الرجل الثاني في التنظيم أيمن الظواهري في رسالة نسبت إليه وجه فيها مجموعة ( من النصائح) للزرقاوي. أبرز تلك الاختلافات كانت في طبيعة التعامل مع "إسرائيل"، وماهية العمليات التي يقوم بها التنظيم. عن عنصر الخلاف الأول نجد بالاستقراء أن التنظيم الأم تعامل مع"إسرائيل" من خلال محددين أساسين: الأول: عدم استهدافها ككيان مغتصب لأرض فلسطين داخل الحدود وتوجيه العمليات إلى عملائها ومراكزها في الخارج، فلم يبدأ توجيه ضربات لأهداف إسرائيلية خارجية سوى مرتين، الأولى عملية تفجير المعبد اليهودي في جربا في تونس بداية عام 2002 ، والثانية العملية المزدوجة التي وقعت في مومباسا في كينيا في نهاية العام نفسه واستهدفت أبرز قواعد المخابرات الإسرائيلية في إفريقيا. الثاني: استغلال الأوضاع الناشئة عن الاحتلال الصهيوني لأرض فلسطين وعمليات القمع المستمرة لأبنائه واتجاه القادة والزعماء العرب ناحية مخططات السلام مع اليهود لإثارة الحمية في قلوب العناصر المستقطبة ووضعها في "القالب الساخن" وتفعيلها لخدمة الأهداف ولمخططات المحددة. وربما راعى قادة التنظيم في توجهاتهم تلك خصوصية الجهاد في أرض فلسطين، وهي القاعدة التي يسعى تنظيم الزرقاوي فيما يبدو إلى تجاوزها. أما عن عنصر الخلاف الثاني فسنجد أنه منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر عام 2001وتوجهات القاعدة الأم تنحو نحو استهداف "العدو البعيد" وتوجيه ضربات قليلة وموجعة إليه في عقر داره، وثمة ندرة ملحوظة في العمليات داخل الدول العربية والإسلامية. وهذا النسق القاعدي خرج عنه الزرقاوي أيضا، حيث غالب عملياته بطبيعة الوجود الجغرافي تتجه ناحية الدول العربية والإسلامية، علاوة على استهداف الأماكن المدنية كالفنادق والمنتجعات السياحية. ثوابت ومنطلقات قبل الخوض في الحديث عن المحاذير والمخاوف التي يثيرها تدخل قاعدة الجهاد على خط الجهاد في فلسطين عمليا كان لزاما للخروج من التيه الفكري اللاحق ببعض المنتسبين لعموم التيار الإسلامي والذي تدفعه الغيرة الملتهبة والحماسة المندفعة إلى تجهيل وتخوين كل من خرجه عن نسقه الفكري إلى تقدمه نسوق فيه قدرا من الثوابت والمنطلقات التي تحيط بالفهم وتضبطه. أولا: أن أرض فلسطين المغتصبة لا يمكن لذي لب وفهم ان يظن أو يعتقد أن تحريرها يمكن أن يكون من خلف الكراسي والمكاتب الفخمة وكؤوس الصداقة مع الصهاينة. فما اغتصب فلن يعود إلا بقوة وعزيمة المجاهدين في ارض الجهاد، وما أرشدنا التاريخ عن محتل خرج بالورود والرياحين، فيما تمخضت بطون الكتب عن صفحات تحرير مزجت بالدماء وارتفعت فوقها أرواح الشهداء فرحة طروبة. وقد تكون الممارسات السياسية مفيدة وداعمة لاشك في ذلك ولكن تبقى المقاومة التي تذيق "إسرائيل" الهوان وتقد مضاجعهم هي الحل ومفهوم الأساس للقضية الفلسطينية. ثانيا:أن قضية فلسطين لها من القداسة ما ليس لغيرها، فثمة اعتبار لكونها ارض مسلمة احتلت واغتصبت من قبل اليهود، وثمة اعتبار آخر أعظم من ذلك لكونها بقعة وطئتها قدم النبي محمد صلى الله عليه وسلم وعليها أولى القبلتين وثاني الحرمين المسجد الأقصى الأسير. ولهذين الاعتبارين، لاسيما الثاني منهما، فهي قضية كل مسلم ومسلمة لا فرق في ذلك بين فلسطيني ومصري وشامي فهي قضية عامة تشمل عموم الأمة كلها قاصيها ودانيها. ثالثا: معلوم من فقة الجهاد المبسوط في مظانه أنه متى نزل عدو ببلد مسلم وجب على أهله أن يهبوا للذود عنه والدفاع عن حرمته، وأن على كل من استطاع من المسلمين أن يدفع عن أهله وإخوانه كان لزاما عليه أن يفعل. وهذا يترتب عليه أن أحدا من الأمة لا يمكنه بحال أن يمنع أحدا أراد إن يحقق أمر الله في الدفاع عن عرض الأمة وكرامتها أن يمنعه أو يعيقه عن تحقيق مراد الشارع. رابعا: ما سقناه أنفا لا يتعارض مع كون كل بلد له خصوصية ما في جهاده ضد أعدائه، وأهله أدرى الناس بالآلية المناسبة لطرد العدو من أرضهم، ومن ثم كان على الكل إذن والحال كذلك أن يتناغموا مع النسق الجهادي المطروح ولا ينشزوا عنه لئلا يعطلوا الآلة بالكامل. وليست وسيلة واحدة وهي الجهاد بالسلاح المبذولة في كل الأوقات وفي كل الأوطان، فقد يكون الجهاد في البعد الإعلامي بشرح أبعاد القضية وسبر أغوارها، وقد يكون الدعاء بسحر الليل وقد يكون غير ذلك الكثير، فقط لابد في كل الأحوال من مراعاة الخصوصية وعدم الافتئات على أهل القرية فهم ادري بشعابها طالما يقومون بأمر الله كما ينبغي حتى وان اختلفنا في بعض الجزئيات التي لا تطعن في صلب التوجه. مخاوف ومحاذير يكتنفنا في توجه قاعدة الجهاد بعملياتها إلى فلسطين عدة مخاوف ومحاذير نبسطها في العناصر الآتية: أولا: استقر أمر الجهاد في فلسطين على مجموعة من الفصائل التي يمكنها من خلال فهمها لطبيعة الصراع مع الاحتلال الإسرائيلي وآلياته وطول أمده إلى التنسيق والتعاون بحيث يتناغم الجميع في منظومة واحدة لا يوجد فيها نشاز إلا في بعض التوجهات والممارسات التي لا تطعن في اصل التوجه العام لتلك الفصائل والتي تمكنت من مزج العملية الجهادية بمكاسب سياسية في اتزان جيد. المخاوف إذن تكمن في أن دخول رافد جديد، قد يغيب عنه الكثير من تفاصيل المعركة مع اليهود، لكون الجهاد الفلسطيني له سمته وطبيعته التي قد تختلف عن نظيره في بلاد أخرى منكوبة، قد يخل بالتوازن الحادث بين الفصائل والتنناسق والتناغم فيما بينها من ناحية، وقد يخل من ناحية ثانية بطبيعة المزاوجة بين الممارسات الجهادية والانخراط في بعض الأنشطة السياسة الضرورية التي تدعم الجهاد ولا تعوقه. ثانيا: نؤسس على ما سبق أن الجهاد في فلسطين أحوج ما يكون إلى اجتماع الكلمة ورص الصفوف، وليس في حاجة بطبيعة الحال لمتغيرات أكثر مما هي قد تعوق ولا تدفع في رافد الجهاد. كما أن تعدد الولاءات وتشتتها بعد استقرار الأمور على وضعية ارتضاها الجميع هو ما ينذر بخطر شديد على مستقبل الجهاد برمته في ظل وجود عدو متمرس على بذر الفتن والانشقاقات وينفث فيها من شره ويراعاها حتى يرى ثمارها الخبيثة. ثالثا: تدخل القاعدة بكل اشكاليتها الدولية المعروفة على خط المقاومة في فلسطين يجر هذا العمل المشرق إلى ساحة دولية متربصة ويدخلها في مجموعة من التوازات والمشكلات الدولية التي تجنبتها طيلة الفترة الماضية، ورغم ذلك أصابها من رذاذها وشررها ما أصابها، ولكن الدخول بصورة سافرة كمثل ما حدث فان ذلك بلا شك سيخندق المقاومة الفلسطينية في خندق القاعدة ويجر عليها من المشكلات الإقليمية والدولية ما الله به عليم، ولا نظن أن ذلك مبتغى قاعدة الجهاد ولا مناها. رابعا: سيكون تدخل القاعدة في فلسطين بمثابة فرصة ثمينة ل"إسرائيل" لتشويه صورة المقاومة هناك والترويج لاعتبارها جزءا من الإرهاب العالمي الممثل في القاعدة. كما ستصطاد كعادتها في الماء العكر بشن حملة لتوجيه أنظار العالم بعيدا عما تقوم به من ممارسات إجرامية في الأراضي الفلسطينية بحجة أنها قد صارت الآن " ضحية" لقوى الشر التي اجتمعت عليها من كل صوب وحدب. خامسا: ثمة التحام واضح بين فصائل الجهاد في فلسطين وبين عامة الشعب الذي يقف مواقف مشرفة ويتحمل كثيرا من الجرائم الإسرائيلية التي تأتي ردا على العمليات الفدائية، وهي ضريبة لابد من بذلها على كل حال، وربما استشعاره بعظم ما تقوم به هذه الفصائل وإدراكه أنها تنافح عن قضيته العادلة حصرا هو ما يدعوه إلى هذا الالتحام والتعاضد مع أفراد المقاومة، ولكن المخاوف تتعاظم من انفراط عقد هذا التحالف في حالة دخول تيارات جهادية أخرى لها أجندتها الخاصة.