ما إن أقر مجلس الشيوخ الفرنسي في 23 يناير مشروع القانون الذي يجرم إنكار تعرض الأرمن لإبادة جماعية علي يد الأتراك العثمانيين إبان الحرب العالمية الأولى، إلا وأكد كثيرون أن باريس ضحت بالعلاقات مع أنقرة من أجل حسابات انتخابية وسياسية قد تنقلب عليها في نهاية المطاف. وكان مجلس الشيوخ أقر مشروع القانون بموافقة 127 عضوا، مقابل رفض 86 آخرين، وذلك بعد أن تبناه مجلس النواب الفرنسي أيضا في 22 ديسمبر الماضي ، وسيحال مشروع القانون، الذي يعاقب من ينكر تعرض الأرمن لعمليات إبادة في الدولة العثمانية بالسجن لعام وغرامة قدرها 45 ألف يورو "57 ألف دولار"، إلى الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي الذي ينبغي أن يقره قبل العطلة البرلمانية في نهاية فبراير المقبل. وبالنظر إلى أن أنقرة كانت توعدت باريس بعقوبات قاسية في حال تبنى البرلمان الفرنسي بمجلسيه مشروع قانون "إبادة الأرمن"، فقد جاءت ردود الأفعال التركية الغاضبة تجاه خطوة مجلس الشيوخ لترجح أن الرئيس نيكولا ساركوزي سيدفع الثمن بشكل أو بآخر. وكان رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان شن هجوما لاذعا على ساركوزي، قائلا في كلمة له أمام البرلمان التركي في 24 يناير:"إن ساركوزي عدو لتركيا وعنصري، لا يستطيع الهروب من حقيقة أن جده من الأصول اليهودية طرد من إسبانيا وعاش تحت مظلة الدولة العثمانية". ووصف أردوغان القانون الذي أقره مجلس الشيوخ الفرنسي بأنه "عنصرية علنية وإعدام لحرية التفكير ومحاولة لحشد الأصوات المعادية لتركيا، قائلا:" التاريخ لا يحاكم ولا يكتب في البرلمانات، تركيا دولة كبيرة ولن تسمح لدول صغرى بأن تكبر من خلال مخاصمتها". بل واعتبر أيضا أن القضية تتجاوز العلاقات التركية الفرنسية، مؤكدا أن الصمت على هذا القانون هو صمت على "الفاشية المتنامية في أوروبا". وفي السياق ذاته، استنكرت وزارة الخارجية التركية إقرار مشروع القانون، ووصفت قرار مجلس الشيوخ الفرنسي بأنه "طائش"، كما نقلت وكالة أنباء الأناضول عن وزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو قوله إن بلاده ستتخذ عقوبات إضافية ضد باريس. أما بولانت أرنس، نائب رئيس الوزراء التركي فقد حذر من أن بلاده قد تلجأ إلى المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان لإدانة فرنسا، بل وأعلن التليفزيون التركي اعتزامه وقف مشاركته في "يورو نيوز" التي يساهم فيها ب15.5% وتعتبر أول محطة دولية إخبارية في أوروبا ومقرها باريس. ومن جانبه، أعلن سفير تركيا في فرنسا تحسين بورجو أوغلو ان بلاده ستخفض وجودها الدبلوماسي في باريس إلى مستوى القائمين بالأعمال وهو أدنى مستويات التمثيل الدبلوماسي المعترف بها بموجب معاهدة فيينا للعلاقات الدبلوماسية، قائلا:"إقرار مجلس الشيوخ الفرنسي للقانون أفسد العلاقات بين البلدين الحليفين في حلف الناتو، الآن، الجميع سيدفعون ثمنا بما في ذلك تركيا وفرنسا وأرمينيا". وبجانب التصريحات السابقة، فإن هناك أمرا آخر يؤكد أن تركيا لن تتسامح مطلقا مع الاستفزاز الفرنسي الجديد ألا وهو العقوبات التي أعلنتها بالفعل ضد باريس في ديسمبر الماضي فور إقرار مشروع قانون "إبادة الأرمن" في مجلس النواب الذي يسيطر عليه حزب ساركوزي "الاتحاد من أجل حركة شعبية". وكانت تركيا قررت حينها تعليق كافة الاجتماعات الاقتصادية والسياسية والعسكرية مع فرنسا، واستدعت سفيرها هناك لوقت قصير، بل وخرج أردوغان على الملأ في 23 ديسمبر الماضي بتصريحات نارية اتهم فيها فرنسا بارتكاب "إبادة جماعية" في الجزائر. وقال أردوغان في مؤتمر صحفي بث وقائعه التليفزيون التركي حينها:"ارتكبت فرنسا مذبحة بحق ما يقدر بنحو 15 بالمائة من سكان الجزائر بداية من عام 1945 ،هذه إبادة جماعية"، ولم يكتف بما سبق، بل إنه اتهم أيضا الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي بتزكية كراهية المسلمين والأتراك سعيا وراء مكاسب انتخابية، قائلا :" إذا كان ساركوزي لايعلم شيئا عن الإبادة الجماعية في الجزائر، فإن بإمكانه أن يسأل والده بال ساركوزي الذي خدم في صفوف الجيش الفرنسي في الجزائر خلال أربعينيات القرن الماضي، إنني متأكد أن لديه (بال ساركوزي) الكثير من الأمور ليخبر بها نجله عن المذبحة الفرنسية في الجزائر". ويبدو أن هناك أصواتا عاقلة في باريس تدرك جيدا عواقب استفزاز تركيا، حيث وصف وزير الخارجية الفرنسي آلان جوبيه مشروع قانون إبادة الأرمن بأنه "غير مناسب"، كما اعتبرته لجنة القوانين في مجلس الشيوخ "مخالفا للدستور". ولعل ما يفضح نوايا ساركوزي أكثر وأكثر، أن مجلس النواب الفرنسي كان صوت في 2001 على قانون يعترف بإبادة الأرمن، إلا أن القانون الجديد يذهب أبعد من ذلك إذ يفرض عقوبات على إنكار تلك الإبادة، الأمر الذي اعتبره كثيرون محاولة متعمدة من الرئيس الفرنسي لكسب أصوات الجالية الأرمينية في بلاده، والتي يقدر عددها ب 600 ألف شخص، بينهم أكثر من 400 ألف ناخب. وتزعم أرمينيا أن نحو 1.5 مليون أرميني مسيحي قتلوا فيما يعرف الآن بشرق تركيا أثناء الحرب العالمية الأولى في عملية متعمدة للإبادة أمرت بها الدولة العثمانية آنذاك ، غير أن أنقرة تنفي أن تكون أعمال قتل الأرمن تمثل إبادة، وتقول إن كثيرا من المسلمين الأتراك والأكراد لقوا حتفهم أيضا مع غزو القوات الروسية لشرق الأناضول بمساعدة من مليشيات أرمينية في كثير من الأحيان ، مشيرة إلى أن ما بين 300 ألف و500 ألف أرميني وعدد مماثل من الأتراك قتلوا حينما انتفض الأرمن ضد الحكم العثماني وانحازوا للقوات الروسية الغازية. وبجانب سعي ساركوزي لكسب أصوات الجالية الأرمينية في بلاده، فإن هناك من ربط أيضا بين توقيت إقرار مشروع قانون إنكار الإبادة ومحاولات الرئيس الفرنسي ذي الجذور اليهودية الضغط على تركيا لتحسين علاقاتها مع إسرائيل لكسب أصوات اللوبي اليهودي ، هذا بالإضافة إلى محاولته استمالة اليمين المتطرف عبر خطوة عنصرية جديدة ضد المسلمين . فمعروف أن ساركوزي كان من أشد منتقدي مسعى تركيا للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي لأنها دولة مسلمة، كما وقف بقوة العام الماضي وراء إقرار البرلمان الفرنسي مشروع قانون مثير للجدل يمنع المسلمات من ارتداء النقاب أو البرقع في الأماكن العامة ويجبر المخالفات على دفع غرامة مالية. وبصفة عامة، يجمع كثيرون أن محاولات ساركوزي ذي الجذور اليهودية الهادفة لتركيع أنقرة ودفعها لتقديم تنازلات فيما يتعلق بالخلافات مع إسرائيل وأرمينيا لن تجدي نفعا، بل إنه سيكون الخاسر الأكبر في النهاية، خاصة أن فرنسا هي خامس أكبر سوق للصادرات التركية وسادس أكبر بلد مستورد للبضائع والخدمات منها وتقدر التبادلات التجارية بينهما بنحو 12 مليار يورو سنويا.