صدر منذ عدة أسابيع عن سلسلة إبداعات عالمية الكويتية ترجمة ديوان " الإياب "Die Heimkehr للشاعر الألماني الكبير هاينريش هاينة Heinrich Heine ، والذي ترجمه إلى العربية وقدم له الناقد والمفكر البارز دكتور "أسامة أبوطالب " .وهو أحد المثقفين المعروفين بمواقفهم النزيهة والمعتدلة في ظل حالة الاستقطاب السياسي والثقافي التي أعقبت ثورة يناير. وقد أكد "أسامة أبو طالب" في ترجمته المتميزة تلك ما نعرفه عنه من أصالة و رقي ، سواء في اختياره للشاعر الألماني الشهير "هاينة" ، أو في مقدمته الثرية التي تكشف بوضوح اعتزازه بحضارته العربية والإسلامية ، وتكشف أيضا قدرته النقدية البارعة في القراءة المعرفية والفنية والجمالية للنصوص والشخصيات و الواقع أيضا . استطاع "أبو طالب" أن ينجو من فخ الاستقطاب السياسي والأيدلوجي .. ورفض أن ينحاز إلا إلى الحقيقة والجمال .. وهي السمات التي ينبغي أن تكون في الناقد المسئول و الجاد الذي يعرف طبيعة الدور المنوط به في تشكيل وعي ووجدان الأمة ، ولا يلتفت - مثل كثير من مرتزقة الكتاب والنقاد- إلى شهرة زائفة أو براجماتية متسولة .كما جاءت ترجمته لهذا العمل الذي ترجم إلى لغات عديدة لتكون واحدة من الترجمات المتميزة التي تنم عن قدرة وتمكن صاحبها من كلتا اللغتين الألمانية والعربية .. وتنم أيضا عن براعة الحس اللغوي في استخدام المفردات بدءا من عنوان الديوان " الإياب" أو Die Heimkehr ذلك العنوان الذي كان يمكن لمترجم آخر غير " أسامة أبو طالب " أن يجعله – بدافع الاستسهال- هكذا : " العودة " أو "الرجوع"، لكن المترجم بحاسته الرهيفة والرصينة يصر على أن تكون الكلمة المقابلة في العربية هي " الإياب " بما تحمله من شحنات حميمة ، وعاطفة كامنة تتعلق بالوطن والذات والمكان . لنقرأ معا هذا المقطع لندرك حساسية وصعوبة الترجمة : لا أدري ؛ ماذا يمكن أن تعني ؛ شدة حزني ؛ حكاية من أزمنة قديمة ؛ ترفض أن تبرح الذاكرة Ich weiß nicht, was soll es bedeuten, Daß ich so traurig bin, Ein Märchen aus uralten Zeiten, Das kommt mir nicht aus dem Sinn. إن هذا المقطع الذي قد يبدو ( بسيطا) يكشف عن شيئين : قدرة المترجم وحاسته اللغوية الراقية .. ، ويكشف أيضا عن صعوبة البدائل أثناء عملية الترجمة .. ، وخصوصا من لغة صعبة كاللغة الألمانية بما فيها من حالات تقديم وتأخير و أدوات مختلفة للتعريف والتنكير والتذكير و التأنيث . إن مقطعا بهذا الحجم الصغير قد ترجم في اللغة الإنجليزية – على سبيل المثال – إلى العديد من الترجمات المختلفة . و كان من الممكن أن تكون هناك بدائل من عينة : لا أعرف ، بدلا من لا أدري ، ويدل، بدلا من يعني و أنا شديد الحزن ، بدلا من شدة حزني ، وقصة ، بدلا من حكاية .. وأوقات أو عصور بدلا من أزمنة .... وهكذا . لكن حاسة الناقد فقط وخبرته النفسية والوجدانية ..وثقافته وتجاربه هي التي تجعله يفضل جملة على جملة .. ومفردة على مفردة .. وتركيبا على تركيب آخر . تحية للناقد و المفكر البارز دكتور أسامة أبو طالب على هذا العمل المتميز الذي يعد إضافة مهمة للثقافة العربية .