التطورات التي وصلت إليها أزمة الأطباء والشرطة تمثل دليلا متجددا على غياب الرؤية لدى صانع القرار السياسي ، وضعف حضور السلطة ذاتها في المحكات المهمة للمجتمع ، مما صنع فراغا سياسيا واضحا في شؤون الدولة الداخلية ، وهو فراغ جعل قطاعات الدولة وأجهزتها أشبه بممالك منعزلة ، بلا مرجعية حقيقية ، في كل قطاع منها مملوك أو مماليك تعمل وفق ما تراه مصلحة وحماية للقطاع أو الجهاز الذي يعمل فيه أو يمثله ، حتى لو كان في هذا إضرار فادح بمصالح الوطن كله أو مزيد من الإرباك له وهو يعاني من أكثر من محنة وأكثر من تحد ، كما أن ما حدث يعطي رسالة لكل جهة في الوطن لها مصالح أو مظالم أن تتعامل بنفس المنطق ، منطق البحث عن سبلها الخاصة لانتزاع مصالحها أو رد المظالم أو تصحيح الوضع المتعلق بها ، وهذا الشعور هو الأساس الذي جعل أطباء مصر يحتشدون بتلك الصورة المهيبة وبالآلاف أمام نقابتهم استجابة للدعوة لجمعية عمومية كان شعارها "عمومية الكرامة" ، وكانت الحشود كما أجمع كل المراقبين غير مسبوقة في تاريخ نقابة الأطباء . الأزمة في بدايتها كانت بسيطة ، رغم خطورة دلالتها ، أمناء شرطة طلبوا من أطباء بمستشفى المطرية كتابة تقرير طبي غير سليم فرفض الأطباء ووقعت مشادة انتهت باعتداء الأمناء على أطباء المستشفى ، وفي النيابة فوجئ الأطباء بإحضار الشرطة لتقارير أخرى تقول أن الأطباء هم الذين اعتدوا على الأمناء ، وإما أن يتصالحوا أو يتم تحويلهم للمحكمة ، فكان أن أضرب أطباء المستشفى بالكامل عن العمل وأوقفوا كافة خدمات المستشفى ، فكان أن أصدر النائب العام قرارا بفتح المستشفى والتحقيق مع من أوقفوا العمل فيه ، فتمت الدعوة للجمعية العمومية لحماية كرامة الطبيب ، وحماية أمنه وهو يؤدي رسالته في جميع القطاعات الطبية ، وبطبيعة الحال قارن الأطباء سلوك النيابة مع إضراب الأطباء غلق المستشفى بالموقف من إضراب أمناء الشرطة أنفسهم في مرات عديدة سابقة ، وإغلاقهم مديرية أمن الشرقية عدة أيام لإجبار الوزارة على تنفيذ مطالبهم ، رغم خطورة هذا الموقف الشديدة أمنيا ، ومع ذلك لم يتعرض لهم أحد ، ولا اتخذت أي إجراءات قانونية تجاههم في النيابة أو غيرها ، ثم عادوا يهددون من جديد ، كما أن الأطباء قارنوا بطبيعة الحال بين وقائع الاعتداء عليهم من قبل رجال شرطة وبين وقائع تحرش بعض رجال الشرطة أو مساسهم برجال القضاء سواء كانوا من النيابة أو القضاء ، وسرعة رد الفعل من النيابة والقضاء في تلك الحالة والإصرار على حبس الضباط وتقديمهم لمحاكمات عاجلة ، وبعض الضباط حكم عليهم بخمسة عشر عاما سجنا . في اليوم التالي للجمعية العمومية للأطباء ، كان رئيس الجمهورية يتحدث أمام البرلمان ويعرض هموم الوطن ، لم يأت على ذكر محنة الأطباء وغضبهم بنصف كلمة ، وكأن شيئا لم يحدث ، وبطبيعة الحال لم يشعر الناس أن هناك رئيسا للوزراء يتدخل ، لأنه اعتاد أن ينتظر تعليمات أو توجيهات ولا يملك المبادرة ولا يتحمل المجازفة ، والوزراء المتصلون بجانبي الأزمة التزموا الصمت بالتالي ، ولكن القطاعات لم تتوقف عن التشهير بخصومها ، وبدأنا نطالع يوميا في الصحف والمواقع أخبارا مكثفة ومنسقة عن أخطاء الأطباء وكوارث الأطباء في مستشفيات مصر ، في حملة تشويه وحشد رأي عام ضد الأطباء . هذا الفراغ السلطوي يغري كما أشرت كل قطاع في البلد أو نقابة أو جهاز أو جهة أن تتصرف وفق مرئياتها وأدواتها ، أضف إلى ذلك أن أغلب ما يصدر من الإعلام المصري نفسه اليوم ، وهو مرآة الدولة ، يعطيك الانطباع بغياب فكرة الدولة أصلا ، أو أن الحديث عن دولة وقانون ومؤسسات هو جزء من العالم الافتراضي ، والجميع في مصر الآن يعيش على وقع المفاجأة واحتمالاتها ، فكل شيء جايز ، وكل شيء ممكن .