خلط انسحاب حركة العدل والإحسان -إحدى القوى الإسلامية المؤثرة في الساحة المغربية- من حركة احتجاجات العشرين من فبراير، الأوراق بشكل واضح، وفتح الباب جميع الخيارات فيما يتعلق بمصير الحركة الاحتجاجية المتصاعدة في المغرب والرافضة لتمتع العاهل المغربي بسلطات إمبراطورية، رغم إقراره إصلاحات سياسية ودستورية جزئية، روعي أن تبعد المملكة عن أجواء الربيع العربي التي تناثرت نسماته بالقرب منها في كل من تونس وليبيا، وفقًا لأسلوب "بيدي لا بيد عمرو". "حشد وأنصار" إلا أن هذه الإصلاحات لم تحقق ثمارها المرجوة حتى الآن، بل اشتعلت موجة غضب ضد هذه الإصلاحات من جانب عدد لا بأس به من القوى السياسية الليبرالية واليسارية والإسلامية التي حشدت صفوفها استعدادًا لمعركة كبرى كان مخططًا أن تلعب فيها حركة العدل والإحسان المحظورة الدور الأهم، لما تمتلكه من قدرة على الحشد وجذب الأنصار وتضييق الخناق على الحكم الملكي، لاسيما أن تقارير استخباراتية حذرت من خطورة مثل هذه الاحتجاجات على حكم محمد السادس. "حزمة امتيازات" ويبدو أن هذه التحذيرات قد حققت المرجو منها، فعمل البلاط الملكي بكل قوة لتفريغ حركة الاحتجاجات من مضمونها، فحسب إحدى الروايات فتح نوافذ مع حركة العدل والإحسان "المحظورة" أصلًا، وقدم خلالها تنازلات ملموسة للحركة، منها التغاضي عن أنشطة الحركة، وتقديم عدد من الامتيازات لها، سواء في افتتاح مقرات أو ممارسة نشاطها الإعلامي بشكل أكثر سلاسة، وصولًا لإمكانية إقرار حزب سياسي للجمعية، في إطار إدراك السلطة أن انسحاب العدل والإحسان من الاحتجاجات يسدد رصاصة الرحمة على هذه الاحتجاجات التي كانت الحركة مع حزب النهج الديمقراطي اليساري يشكلان عمودها الفقري. "رفع الحرج" لكن هذا التصور رغم وجاهته لا ينفي أن هناك وجهًا آخر للأزمة، تمثل في إقدام الحركة الإسلامية الأكثر تشددًا على شق صف الحركة الاحتجاجية، مجاملة لحكومة العدالة والتنمية "ذات المرجعية الإسلامية" "، فمن غير المقبول جملة وتفصيلًا أن تضع قوى إسلامية العراقيل في وجه حكومة يقودها حزب "إخواني "، لاسيما أن هذا الأمر قد يكون له تداعيات سلبية على شعبية هذه الحركة في أوساط المغاربة، لذا فقد أرادت العدل والإحسان رفع الحرج عن حكومة بن كيران، وإعطاءها الفرصة لتحقيق ما وعدت به من إصلاحات سياسية واقتصادية واجتماعية، رغم ما يتردد عن وجود صراعات بينهما على مرجعية الحركة الإسلامية في المغرب. "منح ومنع" غير أن هذه الرواية قد لا تحظى بالشعبية في أوساط المغاربة، لاسيما أن حكومة بن كيران ليس لديها الشيء الكثير لتقدمه للحركة، فالمنح والمنع في المغرب بيد القصر الملكي، حيث لا يزال الملك يتمتع بصلاحيات أسطورية، فهو مازال الحاكم بين السلطات، وله سلطة حل البرلمان وإقالة الحكومة، مما يجعل تقديم المجاملة للعرش الخيار المفضل، حرصًا على جني ثمار من وراء هذه الخطوة، قد تصل لحد رفع الحظر الذي تعاني منه الحركة منذ عقود طويلة. "خلط الأوراق" خطوة العدل والإحسان غير المتوقعة شكلت مفاجأة غير سارة لعدد من القوى العلمانية واليسارية الضالعة بقوة في حركة الاحتجاجات، فهذه القوى كانت في أمس الحاجة لقدرة العدل والإحسان على حشد الأنصار من كل أركان المملكة، وهي مفاجأة ستخلط أوراق هذه الحركة لمدة ليست بالقصيرة، رغم محاولتها التقليل من أهميتها، بزعم أن انسحاب العدل والإحسان ذي التوجهات المتطرفة قد خفف الضغوط على حركات المعارضة الداعمة للاحتجاجات، لاسيما أن الحركة كانت راغبة في فرض توجهاتها على حركة الاحتجاجات بشكل قد يشعل مخاوف القوى الدولية من هيمنة الحركة الإسلامية المتشددة على هذه الاحتجاجات. "انشقاق متوقع" من المهم الإشارة إلى أن الانشقاقات داخل حركة ال20من فبراير كانت متوقعة في ظل تباين الأجندات بين الحركات المنضوية داخلها، التي تجاوزت 90 حركة، فالعدل والإحسان كثيرًا ما اشتكت من سعي القوى اليسارية والعلمانية للاستفادة من شعبيتها لتمرير أجندتها، لاسيما أن الأخيرة تبدي تحفظًا شديدًا على سعي هذه القوى لفرض الملكية الدستورية، كإصلاح جذري لملف الحكم المغربي، وهو أمر لا يروق كثيرًا للحركة الإسلامية التي أثارت الانسحاب حتى لا تستخدم كحصان طروادة لتنفيذ هذا السيناريو الذي لا يحظى بالإجماع بين كل القوى السياسية هناك، بل يفضلون إصلاحات متدرجة تحارب الفساد وتكرس ثقافة العدالة الاجتماعية بين المغاربة. "عجز ونفاق" إلا أن محاولات القوى اليمينية واليسارية للتقليل من انسحاب العدل والإحسان من الاحتجاجات لم تكن موفقة في ظل الإقبال الضعيف على المشاركة في أولى الفعاليات الخاصة، التي انطلقت في مدن طنجة والرباط والدار البيضاء، خصوصًا أن هذا العجز قدم دليلًا على عجز القوى اليسارية والعلمانية على امتصاص خطوة العدل والإحسان، وتجاوز تداعيات الخطوة التي بعثرت جميع الأوراق، ودفعت القوى الاحتجاجية إلى توجيه انتقادات للحركة الإسلامية، متهمة إياها بالنفاق السياسي، واستجابتها لعرض القصر، في إشارة غير مباشرة لصفقة جرى إبرامها في ليل الرباط الهادئ بين الحكم والحركة السياسية المحظورة، بدلًا من العمل على تطويق أزمتها، والحد من خسائرها. "فقر وبطالة" ولا يبدي مراقبون تفاؤلًا حيال قدرة القوى القائدة لاحتجاجات فبراير على تحقيق اختراق في الساحة المغربية، لاسيما أن كثيرين اتهموا الحركة بمحدودية الطموحات، والعجز عن تبني أجندة واضحة قد تستطيع جذب المغاربة لتأييده، فأغلب المغاربة يضعون معالجة الفقر والتصدي للفساد المستشري في جنبات البلاد في مقدمة أجندتهم، وليس إجراء تغييرات جذرية في نظام الحكم بتحويله لملكية دستورية دون أن يروا لخطوة كهذه تأثيرات على مستوى معيشتهم وعلى تفشي الفقر في صفوفهم. "خطاب عاقل" هذه الاحتجاجات لا تقف مخاطرها فقط على القصر الملكي، بل قد تحمل تداعيات كذلك على حكومة بن كيران، فرغم الأغلبية التي تتمتع بها الحكومة هناك شكوك قوية في قدرتها على تقديم حلول غير تقليدية لحزمة المشكلات التي يعاني منها المغاربة، خصوصًا أنها محكومة بتوازنات وشركاء قد لا يجتمعون معها في تصور واضح لإقالة البلاد من أزمتها، لاسيما أن هذه الاحتجاجات التي بدأت أولى مؤشراتها أخيرًا ستشكل عامل ضغط عليها، وستضع مصداقيتها على المحك، في حالة عدم قدرتها على التعاطي الإيجابي مع تداعياتها، خصوصًا إذا استطاعت تبني خطاب عاقل وسياسات غير تقليدية قد تقنع المغاربة بمنحها فرصة قبل الحكم عليها. "رسالة خاطئة" من المؤكد أن انسحاب جمعية العدل والإحسان من حركة العشرين من فبراير سيسهم في إضعاف هذه الحركة الاحتجاجية الشبابية، التي ما زالت تتظاهر في شوارع المغرب ضد الفساد وضخامة نفوذ الملك، إلا أن تداعياتها ستكون لها آثار عكسية كذلك على البلاد بشكل عام، فربما استقبل النظام المغربي الرسالة بشكل خاطئ، واعتبر الخطوة تخفيفًا للضغط عليه، لإقرار إصلاحات جادة أو التراجع عن الخطوات التي أقرها منذ مدة، وهو ما قد تكون له عواقب وخيمة قد تضر بمسيرة الإصلاح وتعيد المغاربة بكثافة واسعة للشارع لفرض الإصلاح. لذا فمن المهم أن يستفيد الحكم من خطوة العدل والإحسان للبناء عليها والعمل على تبني إصلاحات جادة تقنع الشارع المغربي، بتأييده وإعطائه فرصة للإصلاح لتحقيق الأهداف، لاسيما أن بطء الإصلاحات قد يقنع حركة العدل والإحسان بالتراجع عن وقف مشاركتها في الاحتجاجات، ووضع الحكومة في حرج بالغ بفتح الباب لاحتجاجات ضخمة قد تعيد أجواء الربيع العربي للمغرب مجددًا، وتفرض قواعد جديدة للعبة السياسية، قد يجد فيها النظام مجبرًا على الرهان على الحل الأمني لتسويتها، وهي مغامرة غير مضمونة العواقب. "فرصة للإفلات" وتضع هذه التطورات الفرقاء السياسيين في المغرب أمام خيارات عدة، فالمعارضة مطالبة بقراءة خطوة انسحاب العدل والإحسان بطريقة متأنية، والتعاطي بشكل إيجابي مع مخاوفها، والعمل على إعادتها لصفوف المحتجين، والاستفادة من قدرتها على الحشد والتعبئة، باعتبار أن العمل على التقليل من أهمية غياب العدل والمساواة عن الاحتجاجات وتكريس الصراعات بين القوى المعارضة له قد يمنح الحكم المغربي الفرصة للإفلات من أي استحقاقات سياسية، والعمل على إضعاف وتيرة الإصلاحات بشكل متعمد. "غياب الثقة" غير أن هذا السيناريو يبدو عبثيًا بدون إقرار القصر الملكي إصلاحات تكرس الانقسام، وقطع الطريق على عودة العدل والإحسان للاحتجاجات، في ظل ما يتردد عن وجود جهود لإعادة الفصيل الإسلامي للاحتجاجات، وتسوية خلافاته مع الليبراليين واليساريين، وإلى أن يقر الحكم هذه الإصلاحات أو يعود الإسلاميون للاحتجاجات فالساحة المغربية تبدو حبلى بالصراعات والاختلافات، في ظل مناخ عدم الثقة الذي يحكم جميع أطرافها. المصدر: الإسلام اليوم