رسم القرآن الكريم صورة الدنيا وصورة الآخرة، وأوضح لنا أن هذه الحياة الدنيا هى المقدمة الضرورية للآخرة وبغيرها لا آخرة لمن لادنيا له. ولكى يشرح القرآن علاقة الدنيا بالآخرة ركزعلى أن الدنيا مجرد معبر يترتب على أداء الإنسان فيها وضعه فى الآخرة، وحصن الإنسان بكل المعلومات التى تجعل دنياه مدخلا مريحا لآخرته بأن يعطى لكل منهما حقها وأن يستمتع فى الدنيا بالقواعد التى وضعها الله حتى يظفر بالآخرة. لذلك كانت الأحاديث وأقوال الصحابة والصالحين تؤكد هذه الحقائق، ومن أبلغ من عبر عن وظيفة الدنيا على بن أبى طالب كرم الله وجهه حين أكد أن الدنيا مزرعة الآخرة، فأنت تحدد نوع الثمار التى تريد أن تظفر به فى الآخرة إذا أحسنت اختيار البذرة وتعهدتها بالرى والمتابعة وأنت موقن أنك راحل لا محالة، كما أنك موقن أن هذه القواعد مطلقة وبحجية مطلقة لا تقبل احتمالا ،وجدت كل شيء محضرا. من ناحية أخرى، حرص القرآن الكريم على وضع الكوابح التى تمنع الإنسان من أن ينخرط فى الدنيا وملذاتها بما يضيع آخرته فالمتعلق بهذه الدنيا الفانية وبمظاهرها من الأموال والأولاد والمناصب وغيرها مما يحرص الإنسان عليه فيها إلى زوال، وحسم القرآن الكريم المسألة بقوله تعالى كل شئ هالك إلا وجهه. فهناك فرق بين التمتع بالدنيا فى حدود ما شرع الله استثمارا للآخرة، وبين نسيان الآخرة والاستغراق فى الدنيا. ومن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وماله في الآخرة من خلاق.
ولذلك حفلت آيات الذكر الحكيم بالتأكيد على أن هذه الدنيا إذا قورنت بالآخرة فهى لا تساوى جناح بعوضة. هذا التحقير فى الدنيا لمنع التعلق بها ونسيان الآخرة هو فى مجال المقاومة بين متاع الدنيا وحسن متاع الآخرة، وأعظمها أنه إذا كان المؤمن يوقن بأنه إن لم يكن يرى الله فإن الله قطعا يراه لأن الإنسان يحمل الروح التى تسير الجسد وهى روح الله سبحانه، واستعلى على متاع الجسد المخالفة لشرع الله مرضاة لله وطمعا فى الآخرة، فإن هذا المؤمن يرى الله فى الآخرة ويكلمه الله، أما من أنكر الله فى الدنيا ولم ينتظر الآخرة وغفل عنها، ولم يسعى لها سعيها، فإن الله لا يكلمه ولا ينظر إليه يوم القيامة. وحرص القرآن على توجيهنا إلى أن حياتنا فى الدنيا مهما طالت، لا تقارن بأبدية الأخرة، وأنها مهما توفر لنا من نعيم الدنيا، فإنها لا تقارن بنعيم الآخرة. هذه المقارنة فهمها البعض ومن فى قلبه مرض أن القرآن يحقر شأن الدنيا فلا قيمة لها، وتجاهل أنه لاآخرة لمن لادنيا له.
ترتب على هذا الفهم خمسة نتائج خطيرة. الأولى هى أن بعض الفرق الدينية كالمتصوفة دعوا إلى الزهد فى الدنيا بمعنى سلبى، وفسروا حديث المعصوم نبينا عليه الصلاة والسلام إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده تفسيرا سلبيا ومثال التقابل فى فهم الحديث ما ذهب إليه الإمام مالك من معنى سلبى، وما ذهب إليه إمام مصر وفقيهها الأكبر الليث بن سعيد ، علي خلاف ذلك.
النتيجة الثانية: موقف الحكام المستبدين الذين وجهوا الناس إلى الآخرة حتى يظفروا هم بالدنيا، فوجهوا فقهاءهم إلى هذه القسمة الماكرة ، حيث طلب الحكام الدنيا وما لهم فى الآخرة من خلاق، وهى مخصصة لمن حقر الدنيا وانتظر الآخرة. ويتم التعبير عن هذه القسمة الظالمة لتبرير ظلم الحكام وتحريفهم للمعانى السامية الجوهرية فى هذا الدين الخالد بصور مختلفة، رأيناها فى مصر حيث شدد الحاكم على فصل الدنيا بما فيها من سياسة ومتاع ومزايا عن الآخرة وهى الدين، واشتهر عن الرئيس السادات أنه كان يردد لا دين فى السياسة ولاسياسة فى الدين، وجميع الصراعات بين حكام مصر والتيارات الإسلامية ترجع فى أغلبها إلى دعوة الحاكم الناس إلى البعد على مكاره الدنيا التى أفسدها الحاكم بالقهر والامراض والسجن والتعذيب والتضيق فى وسائل الحياة، لأن هذا الصبر هو انتظار لآخرة لا ظلم فيها ولاشقاء. فكأن الحاكم فى مصر تخصص فى أسباب الشقاء للناس، خدمة لهم حتى يظفروا بالجنة، وتتحدد مراتب الجنة، فى فقه أتباعه السفهاء، بدرجة المعاناة على يد الحاكم، بل إن فقهاء الحاكم لم يستحوا أن يفتوا بأن الحاكم سوف يذهب إلى الجنة إذا كان قصده من تعذيب الناس ونهب الأوطان هو رفع معدل الشقاء حتى يظفروا بالجنة، كما برروا قتل الحاكم للناس وإنكاره عليهم صفة الشهيد التى تسبغ امتيازات أدبية ومعنوية ومادية على أهل القتيل، استنادا إلى أن القتلى نوعان: النوع الأول الذى قتل وهو فى خدمة الحاكم، فهو شهيد بالمعنى الدنيوى فى نظر الحاكم أما النوع الثانى المستحق للقتل لأنه يعارض الحاكم ولى الأمر فجزاؤه القتل وأهله التنكيل، ولله وحده حق اعتباره شهيدا عنده، لكنه على التحقيق منبوذ عند الحاكم وعندالناس الذين قهرهم الحاكم.
النتيجة الثالثة: موقف إسرائيل الذى صار مطابقا لمواقف الحاكم العربى المستبد، فأعداؤهما معا هم المعارضون للحكام والمقاومون للاستبداد والقهر الإسرائيلى.
وقد انكب الباحثون الإسرائيليون فى البحث عن أسس قرآنية لتشويه شهداء المقاومة الفلسطينية يوم كانت العمليات الاستشهادية ضد إسرائيل هى المعادل الفلسطينى للسلاح النووى وقبل أن يموت شباب مسلم فى أعمال إجرامية فى عمليات تسميها داعش والنصرة عمليات استشهادية.
انتهى التحليل الإسرائيلى إلى أن الشباب الفلسطينى المسلم الذى لا سبيل لحياة طيبة له أدرك أن المهم هى الآخرة خاصة إذا ذهب من الدنيا إليها بعمل يجعله شهيدا. فالشاب الفلسطينى لا يبحث عن الدنيا ولا يسعى إليها، وإنما يمتثل لدينه الذى فسره الصهاينة بأنه يحث على الخروج من هذه الدنيا الضيقة الصعبة المؤقتة إلى دار الخلد والنعيم، فالتمس الشهادة . هذا التقابل بين الشاب الفلسطينى والشاب الإسرائيلى الذى يتمتع بصداقاته وأوقاته فى البارات يستكثر الشاب الفلسطينى "الحقود" على الشاب الإسرائيلى أنه سعى فى الأرض والتمس نعيمها إلى مرتبة الشهيد فى الآخرة.
والتوصية التى خرجت بها الدراسات الصهيونية هى أنه يجب العمل على تعظيم الدنيا عند الفلسطينيين خلافا لدينهم وقرآنهم ، حتى يحرصوا عليها ويقتربوا من الإسرائيليين معا من أجل الحياة، بدلا من الموت لطرف والحياة لطرف آخر. وهذا هو أساس المعالجة الاقتصادية للمشكلة الفلسطينية التى تقدمها إسرائيل والغرب وإغفال الجانب السياسى المتصل بحق هذا الشعب والوجود على أرضه.
وبذلك تريد الدراسات الإسرائيلية أن تعكس فهمها للقرآن بتحريف معانيه ولتأكيد على أنه يحتقر الدنيا فتهون فى نظر الفلسطينى أملا فى الآخرة، كما تخلص إلى ضرورة خلق دنيا مشتركة للإسرائيلى والفلسطينى حتى لو كان الفلسطينى فيها عبدا لسيده الصهيونى الذى يملك بقاءه فى الدنيا أو إرساله إلى الآخرة، دون أن يأخذ الفلسطينى زمام المبادرة بنفسه إلى الآخرة ويتقرب بها بعمل فدائى ضد الشاب الصهيونى، فيظفر بالجنة. وهكذا ضن الصهاينة على شباب فلسطين بدنيا كريمة وأخرة خالدة ناعمة فى آن واحد.