كان أبي –رحمه الله- وأظن كذلك كل آباء العالم عبر كل العصور، يحب ويسعى أن أصبح أفضل منه، وأن ألقى في الحياة حظا أفضل من حظه، وفي سبيل تحقيق ذلك واقعا وليس شعارا يُرفع، كان يمارس حزمة من الإجراءات أهمها على الإطلاق – من وجهة نظري- عملية نقل الخبرات الحياتية المتراكمة لديه نتيجة تجارب السنون، والإصرار على محاولة تجنيبي إعادة الوقوع في نفس أخطاء كان قد وقع هو فيها في الماضي، أو وقع فيها آخرون من معارفه، كان لا يخجل في سبيل ذلك أن يعترف بأخطائه الماضية –مهما سبّب له الاعتراف بها لأبنائه من ضيق أو خجل أو مظنة تقليلنا لكفاءته وحكمته إذ يعترف لنا بوضوح بالوقوع في عدد من الأخطاء المختلفة في جوانب متعددة من حياته- كان يفعل ذلك ضاغطا على المشاعر الإنسانية الطبيعية التي تريد الاحتفاظ بشعور التفوق وامتلاك الحكمة والنظرة البطولية الأسطورية التي ينظرها الأبناء في مرحلة عمرية ما تجاه آبائهم.. كان تقريبا يحطم ذلك التمثال الأسطوري الذي ربما كان من وهم خيالنا كأبناء، ليحقق في ذواتنا ما عجز عن تحقيقه في هذه الحياة.. ولم يكن يكذب أو يتجمل أو يبرر لنا ما قد كان.. ينبع صدقه مع النفس إلى أقصى درجات الصدق البشري، كونه صادقا مع ذاته في الهدف الذي يصبو إليه وهو تجنيبنا تكرار التجارب الفاشلة، يريدنا أن نبدأ من حيث انتهى، حكمة وخبرة وعلما، لنستكمل مسيرة الحياة، بدلا من أن نتعثر في نفس الحفر التي تعثر هو فيها من قبل.. ولئن كنت أكاد اجزم أن معظم -إن لم يكن جُل- الآباء هم كذلك.. إلا أنني أقر أن تلك الاعترافات وتصويب التجارب والحكم على ما قد كان ورواية تاريخه الشخصي بشكل محايد دون تضليل أو تبرير أو تزيين ظلت تمثل لي الأسطورة الحقيقية لأبي.. أسطورة واقعية، أو الواقع الأسطوري، فالعظمة كل العظمة أن تصل إلى تلك الدرجة من درجات الصدق مع النفس ومع من تحب لا أن تتجمل أمامهم بما لم تحققه بالفعل! الآن أدرك كم عانى أبي –رحمه الله- في سبيل تحقيق هذه الغاية، وأنا أحاول تكرار تجربته مع أبنائي فانقل لهم مواقع العثرات والأخطاء كما أنقل لهم كذلك لحظات الألق والتميز والقرارات الناجحة التي اتخذتها، تعزيزا لمسيرتهم في الحياة أملا أن يصبحوا في حال أفضل مما وصلت إليه.. فالاعتراف بالحق دون تزييف ولو على حساب النفس أو من نحب، ثقيل ثقل الجبال لكنه واجب رغم مرارته وصعوبته.. تذكرت تلك المناقب لأبي –رحمه الله تعالى وغفر له- في ذات الوقت الذي أحاول أن أتذكر به ما تركه لي أميري من ميراث الخبرات ورصيد التجارب حلوها ومرها ناجحها وبئيسها، وأقارن بين شجاعة أبي الذي لم اختره وإنما قدره لي المولى عز وجل فخرجت هكذا إلى الحياة لأجده نبراسا وحاميا وسندا، وبين أميري الذي بايعته يوما عن قناعة واختيار بعد طول بحث وتأمل وسؤال وربما مراقبه لأحواله لأعطيه ثقتي، كونه الأمير المتحدث باسمي والذي يُصدر لي أوامره في وقت ما، والذي يقود مسيرتي في بعض جوانب الحياة.. وأميري هنا –بلا لبس أو غموض- هو كل من تولى أمرا من أمور العمل العام سياسيا كان أو اجتماعيا أو اقتصاديا أو شرعيا أو رياضيا، واتبعته على ولايته تلك وسرت في الركب خلفه، سواء كان يمارس إمارته تلك من خلال عمل تطوعي عبر مؤسسات المجتمع المدني، أو من خلال موقع رسمي حزبي أو حكومي.. لأكتشف هذا الفارق الجوهري بين حب أبي لي وبين استغلال أميري.. بين رغبة أبي أن أقدم للحياة أفضل مما قدم هو شخصيا وأن أصل إلى ما حلم به يوما ولم يصل إليه، متجردا من كل حظوظ نفسه في المباهاة والتجمثل، وبين إصرار أميري على ألا أتفوق عليه، يريدني أن أكرر نفس التجارب وأعيد نفس الأخطاء بعدم اعترافه بما وقع لديه من خبرات، وذلك عندما يضن عليّ وعلى باقي الأتباع برواية التاريخ الموثق والحقيقي بلا زيف ولا تجميل أو تبرير، إنه بكل يقين لا يريدني أن أتفوق عليه ولا أن أبدأ مسيرتي من حيث انتهى هو لا من حيث بدأ.. ولنأخذ مثالا القابعين خلف الأسوار من قادة وزعماء الحركة الإسلامية – مع تفضيلي الشخصي لمصطلح دعاة الإصلاح، لكني ألجأ لما تعارف عليه الناس اصطلاحا- وعدد كبير منهم مُعرض لتنفيذ أحكام بالإعدام في لحظة ما، لماذا لا يتركون لنا تاريخا صادقا يعترف بالأخطاء والمسالب قبل أن يتباهى بمبادئ الثبات والصمود ومواجهة الضيْم؟! لماذا لم يوثقوا لنا كيف وقعوا في شراك المؤامرات؟ وكيف أخطأوا في تقدير المواقف وعواقبها؟ وكيف ظهرت المشكلات وتضخمت دون أن تكون هناك القدرة على مواجهتها وحصارها والتقليل من آثارها السلبية؟ كيف تم تصعيد من صعد إلى مراكز صناعة القرار داخل حركاتهم وداخل أروقة الحكم حين حكموا – ولو قليلا من الزمن؟ وكيف قدموا الانقلابيين –عليهم- إلى صدارة الصفوف؟ وكيف تجاهلوا التحذيرات والإرهاصات؟ وهل أوتيت حركتهم الإصلاحية من الكبْر والشعور بالتفوق الذي أدى إلى صم الآذان عما وقع تحت أيديهم من نصائح وتصويبات، وغلّ أيديهم عن ممارسة الشورى الحقيقية بمساراتها الصحيحة لا الشعاراتية؟! لماذا لا يعلنون لنا عن النصائح الغالية التي قُدمت وأُهملت وأسماء أصحابها لنعرف للحق وللتاريخ، وقبل ذلك وبعده لتصويب المسيرة وللمضي قدما مع رجال كانوا أولى بالتوجيه والصدارة، ومازالوا هم الأقدر – ولو نظريا – على محاولة دفع السفينة الجانحة إلى عرض البحر من جديد وتقليل خسائر الغرقى والغارقين إلى أقل قدر ممكن؟ التاريخ أمانة أيها الأمير، والتجارب أمانة والخبرات حقا وملكا لأجيال قادمة.. فلا تظنن انك تورّث لنا قيما راسخة كالثبات والصمود والاحتساب، فتلك موروثات ورثّها لنا العظماء على مر التاريخ، وإنما ورّث لنا خبراتك وتجاربك الحقيقية، أنر لنا الطريق بالاعتراف بأخطائك والإشارة إليها والتحذير من الوقوع فيها مجددا، لعله تأتي من بعدنا أجيال تُحسن ما لم نُحسن، وتصنع ما لم نصنع، وتتجنب ما نبهتهم إليه فتكون مشاركا في صناعة مستقبل مشرق ولو بشطر كلمة! فهل أطمع منك أيها الأمير أن تتحلى بشجاعة أبي رحمه الله؟ أم يظل البوْن شاسعا بين ذوبان أبي في مستقبلي، وبين نرجسية أميري المستبد يوما بالقرار، والذي يريد أن يستبد كذلك بالمستقبل فيصادره بحجبه التاريخ والحقيقة؟!