تتوزع المأساة الفلسطينية على شهور العام كله، ولكن شهر نوفمبر تشرين شهد عبر عدة عقود ثلاثة محطات كبرى بدأت بتصريح بلفور فى الثانى من نوفمبر عام 1919 وبعد ذلك بثلاثين عاما و27 يوما صدر قرار تقسيم فلسطين فى التاسع والعشرين من نوفمبر 1947 ، وبذلك تكون العلاقة بين الحدثين علاقة عضوية . ذلك أن تصريح بلفور الصادر خلال الحرب العالمية الأولى كان بداية التزام بريطانيا بأن تقوم بدورها طوال هذه العقود الثلاثة حيث استصدرت صك الانتداب بناءا على تقسيم المنطقة بينها وبين فرنسا فى صفقة سايكس بيكو عام 1917، وصدر صك الانتداب على فلسطين بالذات فى مؤتمر السلام فى فرساى عام 1918وباركته الولاياتالمتحدة التى قادت هذا المؤتمر على أمل أن تلعب دور الدولة العظمى وتهجر عزلتها خلف المحيط الاطلسى لولا أن الجناح الانعزالى فى الكونجرس أجل هذه الانطلاقة ربع قرن آخر. وإذا كانت بريطانيا قد تعهدت باعداد فلسطين وتهجير اليهود إليها حتى تكون جاهزة لقيام الدولة اليهودية حيث تخلت من طرف واحد ايضا عن هذا الانتداب ومهدت باتجاه فلسطين نحو التقسيم رغم أن ذلك يتناقض مع ميثاق الأممالمتحدة الذى ابرم عام 1945. وفى التاسع والعشرين من كل عام يحيى الفلسطينيون ذكرى التقسيم وفى مايو يحيون ذكرى النكبة أى تنفيذ التقسيم وتهجير الفلسطينيين من وطنهم وبيوتهم بالارهاب واقامة إسرائيل. ومن واجب الاجيال الجديدة أن تقرأ خلفيات القرار وتفاصيل القرار الصادر من الجمعية العامة للامم المتحدة فى مثل هذا اليوم عام 1947. وقد ظل هذا اليوم ذكرى للنواح العربى مدة طويلة حدث فيها تراجع المشروع العربى وتقدم المشروع الصهيونى فحاولت القيادة الفلسطينية أن تدرك ما تبقى فاضطرت إلى القبول بقرار التقسيم وذلك فى قرار شهير أصدره المجلس الوطنى الفلسطينى فى دورته فى الجزائر فى 15 نوفمبر 1988 في وقت كان العالم العربى قد بدأ يتهيأ للتخلى عن القضية الفلسطينية منذ تقاربت مصر مع إسرائيل عام 1977 وكامب دايفيد 1978 واتفاقية السلام 1979. ومن الوضح أن اعتراف الفلسطينيين بقرار التقسيم قد أدى إلى تصدع الصف الفلسطينى الذى كان مجمعا على استرداد كل فلسطين أو ما يسمى فلسطين التاريخية من النهر إلى البحر وظهر فى ذلك الوقت عدة اشكاليات فى العمل الفلسطينى، الأول هل يصر الفلسطينيون على هذا المطلب بينما اوراق اللعبة والقوى تتأكل فى أيديهم أم يتجهون إلى الواقعية خاصة وأن التراجع العربى كان سريعا وأن إسرائيل قد وضعت مشروعها على الطريق إلى الاكتمال وأن العرب يقرون ذلك سرا ولكنهم يرفعون الشعارات الرنانه علنا. ومن الواضح ايضا أن غزو العراق للكويت وموقف ياسر عرفات قد استقبل ذريعة لتبرير موقف الخليج الجديد من القضية، حتى إذا انعقد مؤتمر مدريد ودشن عملية السلام ستارا للتراجع العربى، أفضى ذلك إلى أوسلو فى الثالث عشر من سبتمبر 1993 الذى شهد عليه العرب وروسيا وأمريكا فلم يعد هناك مفر من أن يتراجع العرب إلى مساحات جديدة أمام تقدم إسرائيل، ثم فكروا فى تحديد الموقف العربى بشكل رسمى بمبادرة السلام العربية فى قمة بيروت العربية عام 2002 بينما كان عرفات محاصرا فى مقره فى رام الله ينتظر مصيره المحتوم بعد ذلك بثلاث سنوات 2005. والسؤال الذى يتعلق بمصير فلسطين فى هذه الذكرى: هل نظل نكرر النواح كل عام على ما مضى وتم اقتضامه من فلسطين بصور مختلفة وهل هناك أمل فى استعادة العرب لمساندة القضية؟ يتعين أن تقوم أحد مراكز البحوث العربية بعقد ندوة فى كل عام أولا لتذكير الشباب العربى بالمحطات الاساسية فى المشروع الصهيونى حتى لا تتراجع الذاكرة العربية فى عصر تدهورت فيه ذاكرة الأمة عمدا، وثانيا حتى يتم مراجعة نسبة التأكل فى القوة الفلسطينية وأورقها وثالثا مراجعة ما يجب عمله لتدارك هذا الفقد فى القوى والعمل على ضرورة استرجاع الحاضنة العربية، وليكن لنا من إسرائيل عبره والمؤتمر السنوى الأمنى الذى تعقده فى ربيع كل عام بمناسبة قيام إسرائيل ولمراجعة مسيرة المشروع الصهيونى وفرصه. وسوف يعقد فى ديسمبير 2015 مؤتمر المعهد الإسرائيلى للدراسات الأمنية والاستراتيجية لدراسة أثر الاتفاق النووى الإيرانى على إسرائيل، وستقدم ورقة هذا المؤتمر إلى مؤتمر الربيع ضمن أوراق أخرى فهل لدينا فى العالم العربى عقلية مركزية منظمة تراجع أحولنا بالمقارنة بإسرائيل؟. لقد أصبح واضحا أيضا أن الشعب الفلسطينى يدرك هذه الحقائق فأصابه اليأس من الدعم العربى والإسلامى والفلسطينى الرسمى وهو يرى بنفسه انصراف العرب والمسلمين إلى ابادة العرب والمسلمين بأموال العرب والمسلمين وأثر ذلك على كل من فلسطين وإسرائيل وهو قطعا تدهور لفلسطين وفائدة كبرى لإسرائيل، كما أن الفلسطينيين يدركون أن انتظار العرب والمسلمين لكى يعودوا إلى رشدهم يعنى التسليم بالقهر الإسرائيلى وابادة الفلسطينيين ، ولذلك فإن هذه الأوضاع هى الأقرب إلى تفسير ثورة الطعن كما يطلق عليها أو الانتفاضة الثالثة كما يحب البعض أن يسميها وأهم خصائصها أنها رد فعل تلقائى من المواطن الفلسطينى دون تدخل من الاحزاب والفصائل وأنه تفاعل شخصى بقدر ما يستطيع المواطن أمام الطاغوت الإسرائيلى من قوات عسكرية ومستعمرين يحتمون أيضا بهذه القوات وكذلك يتجرأون على الفلسطينيين وهم واثقون أن أحدا لن يهم لنجدتهم، لأن العرب والمسلمين عنهم لاهون كما يطمئنون الي الموقف الأمريكي الداعم للبطش الاسرائيلي. ومن المفيد أن تراجع مثل هذه الندوة المقترحة موقف هذه الانتفاضة وكيفية مساعدتها ودعمها وليس فقط الاختلاف حول توصيفها فهى موجة فريدة من موجات الثورة الفلسطينية المستمرة ضد الغاصب الصهيونى فى وقت انشغلت فيه الدول وغابت فيه الشوارع العربية بسبب سياسات هذه الدول اتجاه القضية الفلسطينية وظهر لكل ذى عينين ما يريدون أنكاره وهو أن التيار الإسلامى هو الذى كان يملا الشارع العربى كلما احتاج الشعب الفلسطينى إليه ولذلك عندما ضرب التيار الإسلامى وتم توظيفه في صراعات عبثية ضرب معه هذا الشارع والمقاومة جميعا ولذلك كان منطقيا أن تحتفل إسرائيل بهذه التطورات المطمئنة، ولكنى لا أظن أن هذه الحالة غير الطبيعية سوف تستمر طويلا . والسؤال الثانى الذى يتعلق بمصير فلسطين من الناحية القانونية هل هناك فائدة من الجدل حول اوسلو والقبول بقرار التقسيم والقبول بالمبادرة العربية، والتكفير السياسى للآخر وشق الصفوف على فراغ حذر منه أحمد شوقى ذات يوم فرقاء الفراغ السياسى فى عهد الاحتلال البريطانى فى مصر حين تساءل: إلام الخلف بينكم إلام وهذى الضجة الكبرى علام؟! فى نوفمبر من كل عام تحل ذكرى هذه الاحداث الثلاثة ، فى الأسبوع الأول وعد بلفور والأسبوع الثانى قبول قرار التقسيم وفى الاسبوع الأخير قرار التقسيم، ولذلك نريد لهذه الندوة أن تدرس هذه الاحداث الثلاثة وأين تضعها فى تاريخ الصراع مع إسرائيل وهل كان قبول قرار التقسيم عام 1988 مقدمة ضرورية لابرام اوسلو والاعتراف بإسرائيل دون تحديد حدودها وكيف يمكن معالجة هذه الثغرات ثم أخيرا كيف نعيد بناء الذاكرة الفلسطينية والعربية لعل جيلا جديدا يبدأ مشروعا عربيا معاكسا فيمحو رأس المشروع الصهيونى وصولا إلى قدميه ويحرر العقل العربى من أسطورة الدونية لهم والعبقرية لأعدائهم.