لسنا بصدد استعراض تاريخي لعمليات الإرهاب الأسود في التاريخ الحديث، إذ يكفينا تناول النتائج العملية المترتبة على مثل هذه العمليات منذ الحادي عشر من سبتمبر 2001، أي ما يقرب من عقد ونصف من الزمان لنستخلص الكثير من الحقائق. ولسنا بصدد الإعلان عن براءة التعاليم الإسلامية من تلك الجرائم، فالإسلام من الأساس ليس في خانة الاتهام الصحيح المبني على رؤية عقلانية ومنطقية، ليَهُبّ المسلمون للدفاع عن تعاليمه السمحة، ومع افتراض قيام أفراد متعصبون مهووسون مسلمو الديانة ببعض هذه العمليات، يظل الإرهاب الأسود المرتبط بالهوس والتعصب الديني أو الأيديولوجي لا دين له ولا وطن أو جنسية، فهو مرتبط أكثر ما يرتبط بنظريات التعصب الأعمى والهوس العقائدي سواء للدين أو المذهب أو القومية أو العرق أو الطائفة أو اللون أو الجنس أو الطبقة الاجتماعية والاقتصادية.. فالإرهاب الأسود مارسه عالميا في العقود الأخيرة -على سبيل المثال لا الحصر-: السيخ والناكسالاتيون (الهند)- نمور التاميل (سيرلانكا)-فارك اليسارية (كولومبيا)-جيش الرب (أوغندا)-حزب العمال الكردستاني اليساري (تركيا)-طائفة اوم (اليابان)-منظمة ايتا الانفصالية (اسبانيا)-الحزب الشيوعي البيروفي (بيرو)-الجيش الجمهوري الايرلندي (ايرلندا)- مجموعة الجيش الأحمر (ألمانيا)-الألوية الحمراء (ايطاليا)- قبائل الهوتو والتوتسي (رواندا)- التفويض بالقتل لمجرد الاختلاف السياسي (دول ما بعد الربيع العربي).. إنه إرهاب اسود موزع على قارات العالم شرقه وغربه شماله وجنوبه بكل دياناته وثقافاته وظروفه السياسية والاقتصادية! لكننا في المقابل لا نستطيع ان ندفن رؤوسنا في الرمال، فننفي علاقة الإسلام بالإرهاب الأسود ثم نمضي مرتاحي الضمير ونترك العالم من حولنا يفتش في دوافع مرتكبي تلك المجازر ممن يدينون بالإسلام، ويفتش كذلك في بعض النصوص الإسلامية التي يؤولونها-جهلا أو غرضا- بالتحريض على ممارسة العنف والإرهاب الأيديولوجي الأسود، هناك علاقة ما –مرصودة بالفعل عالميا وإقليميا ومحليا- بين كثير من هذه العمليات الأكثر شهرة إعلامية وبين أفراد من المسلمين وتتبناها تنظيمات تنتهج الإرهاب الأسود على خلفية تأويل كارثي لنصوص شرعية إسلامية (القاعدة-أنصار بيت المقدس-داعش- بوكو حرام............). في هذا الإطار لابد من النظر في بعض الحقائق اللافتة حتى يدرك المتعاطفون مع تلك التنظيمات الفكرية الشاذة غياب العقل والمنطق والحسابات السياسية ومفهوم التوازنات الدولية والمصالح الإقليمية عن منظري تلك التنظيمات، فضلا عن الغياب الكامل لمنهج النظر الرشيد في الفقه الإسلامي، فربما اختلفت العقول في فهم وتأويل النصوص الدينية، لكنها لا تخطئ بالتأكيد قراءة النتائج والمآلات، لأنه لا يخطئها باستمرار إلا عميان البصر والبصيرة غائبو العقول.. حيث تبرز حقائق لافتة منها: 1 – نتائج عكسية كارثية.. فإن كانت التنظيمات التي تؤصل للإرهاب الأسود تتذرع بضرب مصالح الدول والمجتمعات المناوئة لها أو التي تؤيد الكيان الصهيوني وتدعمه، والتي تفرض سيطرتها على مقدرات امتنا، أو تعتبر تلك العمليات الحمقاء رسائل ردع لتلك القوى العالمية، فهاك النتائج التي تحصلت عليها الأمة من جراء وفي أعقاب غالب تلك العمليات-بداية من الحادي عشر من سبتمبر مثالا- ( احتلال عسكري لأفغانستان ثم العراق- تشديد الرقابة والتعنت مع الجاليات المسلمة في أوربا وأمريكا- مزيد من العداء والإسلاموفوبيا تجاه كل ما هو مسلم- ممارسة مزيد من الضغوط على الأنظمة في العالم العربي والإسلامي للتضييق على كل ما هو متدين- تعقيدات في إجراءات السفر والتنقل للمسلمين في الدول الغربية- اعتبار الإرهاب على خلفية إسلامية هدفا استراتيجيا مما يبقي على قيادات الصقور متماسكة وقوية أمام شعوبها للقيام بمهمة مواجهة ذلك الإرهاب، بمعنى إعطاء الطرف الأكثر تشددا وتعنتا ضد المسلمين في حكومات الدول الغربية مبررات الاستمرار أمام شعوبهم والمجتمع الدولي!- زرع العداء والكراهية للمسلمين تحرشا بأفراد الجاليات وإساءة إلى رموز الإسلام ومقدساته وفي مقدمتها تكرار الإساءة الإعلامية لما يعتبرونه شخص النبي صلى الله عليه وسلم!!).. 2 – لماذا ينجح إرهاب الدولة المنظم في تحقيق أهدافه ويفشل إرهاب القطاع الخاص؟! فكل حركات العنف سابقة الذكر –سواء كانت على خلفية يسارية أو انفصالية أو دينية- لم تؤتِ ثمارها لم تحقق أهدافها المعلنة، في حين أن عنف الدولة المنظم (قمع الأنظمة) عادة ما يحقق أهدافه كاملة من إرهاب دول الجوار وفرض الهيمنة والسيطرة وفرض حالة الرعب والاستكانة على الشعوب عندما تمارس الدولة إرهابها الأسود ضد مواطنيها! فإقليميا تنعم دولة الكيان الصهيوني بحدود شبه آمنة بسبب ممارستها البلطجة والإرهاب الأسود ضد جيرانها، وعالميا تفرض الولاياتالمتحدة هيمنتها بنفس الأسلوب تقريبا.. ومحليا تجد الشعوب تخضع لإرهاب النظم الحاكمة، وتصاب الرعب القاتل فلا ترفع أصواتها في استنكار ممارسات النظام في الوقت ذاته الذي يزيدها فيه إرهاب المنظمات الإرهابية إلا كراهية لها واستنكارا لأفعالها واحتشادا لمواجهتها، رغم أن خطر الموت واحد لكنه في حالة إرهاب الدولة يصيبها بالصدمة والرعب، وفي حالة إرهاب القطاع الخاص يحشدها في معركة قد تكون مستميتة ضده!! القضية لا تتعلق بالقيم الأخلاقية إذن بقدر ما تتعلق بالقدرة والتفوق واتساع الرقعة والاحتمالية الأكثر للتغلب! الشعوب إذن تدين للمنتصر بصرف النظر عن قيمه وأهدافه ووسائله! 3 – قراءة واسعة-وإن كانت سريعة- في دوافع الإرهاب الأسود بتوزيعته العالمية-غير مقتصرة على منظمات إسلامية كما يروج السطحيون- نجد أن مبعثه ليس في نصوص معتقدات أتباع تلك المنظمات – سواء نصوص أصلية أو محرفة- وإنما مبعثه الأساس انه يأتي كرد فعل تلقائي للإرهاب المنظم للدولة وهضمها لحقوق الشعوب أو الأقليات أو الطوائف أو الطبقات الاجتماعية والاقتصادية الأكثر فقرا.. إن غياب فرص تغيير الواقع والوصول السلمي لتحقيق الأهداف –التي قد يكون بعضها مشروعا وعادلا- وغياب الديمقراطية –وليست الصورية- وفرص تداول السلطة وتوزيع عادل للثروة هي البيئة الخصبة التي تنمو فيها منظمات الإرهاب الأسود على اختلاف مرجعياتها الأيديولوجية!! سؤال أخير نطرحه على المتعاطفين مع مطالب منظمات الإرهاب الأسود المحسوبة على المرجعية الإسلامية.. سؤال يأتي أيضا في إطار إعمال العقل في فهم النص : لماذا لم يأذن النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة الكرام في مكة بالقيام بعمليات اغتيال لأئمة الكفر وصناديده من أمثال أبي جهل وأبي لهب وأمية بن خلف وبن معيط وبن المغيرة وغيرهم؟! لقد كاد هؤلاء للإسلام ونكلوا بالمسلمين نكالا جعلهم مجرمي حرب بامتياز مما جعل إهدار دم عشرة من الباقين منهم بعد فتح مكة –رغم عموم صفح الإسلام وكرم عفو نبيه صلى الله عليه وسلم- حكما عادلا وإن تعلق الواحد منهم بأستار الكعبة. لماذا لم يشكل النبي صلى الله عليه وسلم خلايا تقوم بتصفيتهم رغم سماحه بعمليات قريبة لهذا النوع في المدينةالمنورة بعد قيام الدولة بشكل استثنائي جدا ولظروف بالغة الدقة والخصوصية؟ -عملية قتل كعب بن الأشرف اليهودي الذي حرض على المسلمين وذاع له شعرا في هجاء الإسلام ورسوله ونسائه- وهل للإجابة على هذا السؤال علاقة باختلاف واجبات الدولة عن واجبات الأفراد والمنظمات الأهلية؟ لقد آن لنا أن نزن القيم والأهداف والأفعال في ميزان العقل والمقاصد والنتائج والمآلات لنقول في اطمئنان كامل أن تفجيرات باريس إنما أصابت قلب أمة المسلمين دون غيرهم!!
عضو رابطة الأدب الإسلامي العالمية عضو الاتحاد العالمي للإبداع الفكري والأدبي