ستكون حركة يوليو 1952 العلامة الأبرزعلى طريق الجيش المصرى للقيام بالدور الأهم فى الحياة السياسية والعامة وتدشين سياسات اجتماعية واقتصادية أدت الى تغيير عميق فى بنية المجتمع المصرى وقد ساعد على ذلك بالطبع الظرف التاريخى حدثت فيه تلك الحركة خاصة تداعيات السياسة الدولية ما بعد الحرب العالمية الثانية .. كان الجيش حاضرا بدرجات متفاوتة فى الثورات المصرية منذ ثورة عرابى حتى ثورة يناير 2011.. ثورة 1919 كانت ثورة شعبية لم يكن للجيش دور فيها إذ كانت مصر لا تزال تحت الاحتلال البريطانى وكان التكوين الاجتماعى للجيش لا يسمح بدور بارز له فى هذه الثورة..وبقيت ثورة عرابى بالأساس ذات دلالة رمزية بغض النظر عن اختلاف الرأى حولها . حركة 23 يوليو 1952 بدأت بانقلاب عسكرى تحول إلى ثورة اجتماعية وسياسية ..بالنظر إلى أن طبيعة الجيش كانت قد قد أخذت فى التغير بعد السماح بدخول أبناء الطبقة الوسطى المصرية إلى الكلية الحربية منذ عام 1936 وهو ما أدى إلى تغير مهم فى التكوين الاجتماعى والتوجه الأيديولوجى والطابع المؤسسى للقوات المسلحة وأدى ذلك فيما أدى الى تشكيل تنظيم الضباط الأحرار .. أيضا أدى إلى اتساع الفجوة بين هيكلية مؤسسات الدولة المدنية وتلك الخاصة بالقوات المسلحة خاصة ضباطها المنتمين إلى جيل الوسط. وقد كان ذلك تمهيدا منطقيا لقيام حركة يوليو 1952 فى شكل انقلاب عسكرى ناجح تتبنى نهجا مختلفا فيما يتعلق بدور الجيش فى الحياة العامة والسياسة الداخلية. ورغم تطور دور الجيش ونفوذه فإن القوات المسلحة كانت قبل 1967على أدنى مستوياتها المهنية وقدراتها القتالية وقد ظهر ذلك مبكرا فى حرب 1956 ثم فى حرب اليمن 1962 لكن الخوف الذى سيطر على الرئيس الأسبق ج.ح.عبد الناصر من حدوث انقلاب عسكرى جعله يسلم قيادة الجيش إلى أسوأ من عرفته العسكرية المصرية خلقيا ومهنيا ..وكلنا يعرف الظرف التاريخى الذى رقى فيه عبد الحكيم عامر من بكباشى الى لواء..ليتسلم زمام الجيش ويحدث ما يعرفه الجميع بعدها. تجاوز الجيش المصرى لآثار أم الهزائم حرب 1967التى على ما أحدثته من خراب عام أدت الى إعادة صياغة البنية المؤسسية للقوات المسلحة التى انتقلت إلى مرحلة جديدة(مرحلةالشهيد عبد المنعم رياض) تحققت فيها كل ما كان مفقودا قبل 67 لحساب المشير عامر وأصدقائه..خسارة حرب 1967 أدت إلى إعادة بناء القوات المسلحة وظهورجيل القادة العظام الذين كان يلاحقهم رجال عامر وناصر(رياض واسماعيل والشاذلى وبدوى والجمسى ...) ايضا سيقف الجيش موقفا تاريخيا فى أحداث يناير 1977م .. اذ رفض وزير الحربية وقتها الفريق الجمسى نزول الجيش الى الشارع إلا بعد أمرا كتابيا من الرئيس الأسبق السادات..وكان دوره مقدرا ومصانا..سيغيب فجأة فى حادث غريب عن قيادة الجيش فى مارس 1981م الفريق احمد بدوى ومعه 11لواء من أبرزجنرالات أكتوبر 1973م . سيحدث حدثا تاريخيا هاما عام 1986 إذ سيأمر المشير ابوغزالة وزير الدفاع وقتها الجيش بالنزول الى شوارع القاهرة دون استئذان مبارك ! للسيطرة على أزمة الأمن المركزى ..بلعها مبارك الذى كان شديد الغيرة من الرجل ابن دفعته العسكرية (1949)والذى كان يتمتع بقبول كبير داخل وخارج الجيش ..ثم يُعين وزيرا للدفاع (المشير طنطاوى)يمكث فى منصبه من مايو 1991 إلى اغسطس 2012 .. والجميع يعلمون الحد الأقصى لبقاء كبار قادة القوات المسلحة فى مناصبهم ..لا شك أن تلك العشرين عاما كان لها أثرا هائلا على أشياء كثيرة داخل هذا الكيان الكبير ولنترك التاريخ يقول كلمته فيها حين يحين الوقت المناسب .. كان موت السياسة و ضعف الدولة الديمقراطية الباب الكبير أمام الجيش لكى يكون له وجود أكبر وأقوى فى أجهزة الدولة وفى الحياة العامة كلها.. وهنا أشير الى موقف شديد الأهمية فى تاريخ مصر الحديثة لعله يكون غائبا عن استدلالاته المهمة ..فبعد خروج الملك فاروق من مصر بثلاثة أيام يطلب المرحوم ابراهيم طلعت (احد اهم رجال الحركة الوطنية المغيبين عن التاريخ وأحد رجال الطليعة الوفدية)من البكباشى ج ح عبد الناصر عقد اجتماع مع قادة الانقلاب وبالفعل يعقد الاجتماع فى منزل أحمد فؤاد أحد أهم قادة اليسار المصرى وأشهر رئيس لبنك مصر (وكانت علاقته قويه بتنظيم الضباط الأحرار)واتفق جميع الحضور على دعوة البرلمان _أخر برلمان قبل حركة الضباط_ للانعقاد وفقا للدستور لإضفاء المشروعية على التغيرات الهامة التى حدثت وعلى رأسها خروج الملك ووافق الجميع على هذا الاقتراح إلا ان سليمان حافظ نائب رئيس مجاس الدولة وقت قيام حركة الضباط ..استطاع أن يستصدر من مستشارى الرأى بمجلس الدولة فتوى بعدم أهمية تلك الخطوة وقام هو وعلى ماهررئيس الوزراء وقتها بإقناع الضباط الشبان بان هذا هو الوضع الطبيعى ولا يحتاج للمشروعية عليه من البرلمان المنحل ..ويروق هذا الكلام بالطبع للضباط الشبان وينفذوه فورا .. وفى يوم 3/11/1952 يكتب إبراهيم طلعت مقالا فى جريدة المصرى بعنوان(السبت الثالث من نوفمبر)يقول فيه أن حركة الضباط كان مقررا لها أن تقوم فى هذا اليوم وليس يوم 23/7 وكان متفقا على أن يذهب الجيش إلى مقر البرلمان لإعادة الحياة الدستورية وتمكين نواب الأمة من تولى الأمر وفقا لما ينص عليه دستور 1923..يعدها يمنع إبراهيم طلعت من الكتابة فى اى صحيفة مصرية ويتم اعتقاله قبل قرار حل الأحزاب بيوم واحد فى (16/1/1953)سيحكى لنا إبراهيم طلعت فى مذكراته (بالغة الاهمية) إن عبد الناصر قال له أن أول اتصال تليفونى قام به بعد قيام الثورة كان له فى الإسكندرية .. ستزداد دهشة وحسرة حين تقرا أيضا أن عبد الناصر طلب منه ترتيب لقاء مع فؤاد سراج الدين فى بيت ابن عمه عيسى سراج الدين بالزيتون وكان ضابطا ووافق الباشا فورا وتم اللقاء وحضره مع عبد الناصر عامر وصلاح سالم وخالد محى الدين ومن جانب الوفد احمد أبو الفتح وإبراهيم طلعت ودارت مناقشة هادئة موضوعية اتفق فيها الطرفان على ان يقوم مستقبل مصر على أسس دستورية سليمة كما وافق فؤاد باشا على قانون الإصلاح الزراعي الذى كان إبراهيم طلعت قد شارك فى إعداده..واذا بصحيفة أخبار اليوم (هيكل ومصطفى امين) تخرج بتحقيق صحفى عن هذا الاجتماع كتبه الشاعر كامل الشناوى الذى كان صحفيا بالأساس وليتم تصوير هذا الاجتماع على انه سيطرة من الوفد وسراج الدين على الضباط ويستشاط عبد الناصر غضبا ولتنقطع الصلة تماما بعدها بين الوفد احد أهم مكونات السياسة فى مصر وقتها وبين الضباط وليحدث ما نعرفه جميعا ..ولى إشارة هنا الى هذا الدور الغريب الذى قامت به أخبار اليوم فى إفساد هذا الاجتماع الهام الذى كان لو تحققت أغراضه ..لتغير مسار التاريخ فى مصر والعالم العربى كله ...بعدها ستقرأ كثيرا عن علاقات الأستاذ هيكل والأستاذ مصطفى أمين بالمخابرات البريطانية والأمريكية والتى كانت ممدودة طويلا من منتصف الأربعينيات . هذه المعلومات الهامة تشير الى ان الضباط الذين كانوا فى الثلاثينات من أعمارهم .. تم استخدامهم لصالح خصومات سياسية لدودة بين أطراف كانت مؤثرة فى الحياة العامة وقتها .. ثم كانوا هم بعد ذلك من استخدم هذه الأطراف لصالح الاستحواذ على مقاليد السلطة من رأسها لأطرافها . وليبق السؤال مفتوحا على مصراعيه عن دور الجيش في السياسة وتداعياته على المشهد السياسي ودور المؤسسة العسكرية ذاتها؟ من المهم أن نؤمن جميعا أن إدارة الدولة تقوم على مبادىء وأسس تهدف إلى توظيف استراتيجيات سياسية واقتصادية واجتماعية وعسكرية لخدمة مصالحها ومبادئها وقد استقرت غالبية دول العالم على أن السياسات الدفاعية والعسكرية واستراتيجيتها هي أداة للسياسة ..لا العكس . كما أن التكامل بين الاستراتيجيات في ظل نظام قيادة وطني هو الضمان الوحيد لعدم تمدد استراتيجية على أخرى. وعليه فان المؤسسة العسكرية تتبع السلطة السياسية و تنفذ السياسات التي يقرها المستوى السياسي ولا تصنع السياسة. وبهذا المعنى فإن المستوى السياسي في الدولة الديمقراطية يأتي فوق المستوى العسكري حيث تتركز مهمة المؤسسة العسكرية في حماية البلاد وضمان أمنها بينما تدير السلطة السياسية المنتخبة شؤون البلاد بوصفها المسؤولة أمام الشعب. كما أن تدخل الجيش في المشهد السياسي له أثر كبير على أداء ومهمة القوات المسلحة حيث يؤدي إلى إشغال جزء كبير من القوات المسلحة في واجبات غير واجباتها الأساسية وهو ما يترك أثاراً سلبية على المؤسسة العسكرية في المستوى المهني والمعنوي والفني والتدريبي كما من شأنه أن يؤثر بشكل كبير على السياسة الدفاعية والاستراتيجية العسكرية وكفاءة القتال والتدريب وهو ما يفرض على الجيش صبغةً لا تنسجم مع الدور الوطني الرمزي للجيوش.