إذا تعمقنا قليلا فى إشكالية كتابة التاريخ المعاصر الذى لا نطمئن إليه ولايثق شبابنا فيه، فالذى يكتبه هو كتبة المقررات الدراسية وهم كتبة وليسوا مؤرخين أو مفكرين أو كتابا، كما يكتبه الإعلام التابع تبعية مطلقة للحاكم، ومن لا يعجبه هذه الصفحات تولى الأمن ترويضه كما تم عزله عن المجتمع والتضييق عليه أو حتى اعتقاله وسجنه، أو فى أحسن الفروض إغلاق أبواب الإعلام جميعا أمامه. فكيف يعرف الشباب الذى لم يعايش هذه الفترة تاريخ وطنه وما هى مصادر كتابة صفحات هذا التاريخ. إن شباب هذه المرحلة الذى عاصر الأحداث يقرأ صفحات لا علاقة لها بالواقع الذى يعيشه.لا مفر من أن نوضح الحاجة الماسة إلى تنوع الكتابات وإجراء مناقشات حرة حول رصد الأحداث، ثم الحرية فى تفسيرها ومقاربتها.
إن تاريخ مصر خلال العقود الستة الأخيرة والذي تكتبه أقلام لها انتماءات حزبية أو أيديولوجية ومريضة بالرغبة فى تنشئة الشباب وفق رؤيتها وتصفية حساباتها مع خصومها جعلت تاريخ هذه الفترة شديد الاضطراب.
ولكى نسهل عملية تصوير الإشكالية، يمكن أن ننظر إلى هذه العقود الستة وفق خمسة معايير أولها المحطات الرئيسية الأربعة المؤثرة فى مصر خلالها، وثانيها وفق قطاعات معينة من الأحداث، وثالثها من منظور تتابع النظم الهشة التى حفلت بها هذه العقود.
أما المعيار الرابع فهو وفق العوامل الحاكمة لتطور الأحداث فيها مثل أثر إسرائيل على تحول النظام المدنى فى مصر إلى نظام عسكرى وتراجع المكون المدنى وأثر إسرائيل على شقاء المجتمع المصرى، ونظرة النظم المتعاقبة إلى العامل الإسرائيلى وأثر العداء أو الاقتراب منها على أحوال مصر.
من ناحية خامسة يمكن تقسيم الفترة الممتدة من 1952 حتى الآن إلى الجمهورية الأولى حيث قطعتها ثورة 25 يناير ثم حكم الإخوان وأخيرا استئناف الجمهورية الأولى بعد تجاوز مرحلة الإخوان. فالتاريخ المعاصر وفق هذه النظرية مرحلة واحدة قطعتها أحداث الثورة والانتخاب وحكم الإخوان لمدة عامين ونصف العام أو بعبارة أدق أنه منذ 1952 حتى 11 فبراير 2011 حكم الرئيس وهو رئيس للجيش والمجلس العسكرى والدولة، وفى 11 فبراير صار رئيس المجلس العسكرى هو رئيس الدولة فأسفرت الانتخابات الرئاسية عام2012عن فصل رئيس الدولة عن رئاسة الجيش ولو من الناحية النظرية وإن كان المجلس العسكرى هو الحاكم الفعلى ثم استرد الحكم فى 3 يوليو 2013 بصرف النظر عن الجدل السياسى والتاريخى حول 30 يونيو وطبيعتها والثالث من يوليو وهو يختلف عن الثالث والعشرين من يوليو 1952، كما يتماثل معه فى جوانب. هما يتشابهان فى أن الجيش هو الذى أنهى حكم الملك وحكم الإخوان، فيما قال كلاهما أنها ثورة، لكن أنصار يوليو 2013 قالوا أنها ثورة شعبية استدعت تدخل الجيش، أو ثورة شعبية سببها عجز الحكم المدنى وإفلاس السياسيين فتدخل الجيش، وهو نفس ما قيل عام 1952، لكن عبدالناصر لم يدع مطلقا أن حركة الجيش كانت شعبية، فالشعبية باركت الحركة، بينما عام 2013 بارك الجيش الحركة الشعبية ولكن فى الحالين تولى الجيش السلطة حتى لو تم فى انتخابات وبملابس مدنية.
انتهت الفترة الناصرية بما لها وما عليها إلى فرق متناحرة: الفرقة الأولى المؤيدة للحكم المدنى، وشعبة فيها مؤيدة للملكية لا الجمهورية ، الفرقة الثانية هم الناصريون الذين تعلقوا بسياسات الوحدة العربية والاعتزاز الوطنى والسد العالى، ومعاداة إسرائيل والعدالة الاجتماعية، بعضهم لا يقبل تقييم العصر الناصرى ويرى أن عبدالناصر كان نبيا هزمته المؤامرة فى الداخل والخارج، ولا يلتفتون إلى المآخذ الخطيرة فى مجال الحريات وحقوق الإنسان والتنكيل بالخصوم ثم بالهزيمة الشاملة عام 1967 مرورا باليمن. أما الفرقة الثالثة فهي ترى أن عبدالناصر أدى واجبه برؤى قاصرة حسب تكوينه وثقافته وأنه استهدف أغراضا نبيلة لكنه طبقها بعقلية محدودة، ثم كان اعتصامه بعسكرة الدولة سببا فى قصور إدارتها وتحجيم مجتمعها وانتهى الأمر بأنه أضر بمصر ضررا بليغا أودى شعوره العميق به بحياته. الفرقة الرابعة هى التيارات الإسلامية خاصة الإخوان التى كانت شديدة النقد لقسوة عبدالناصر، ولذلك فرح هذا التيار فى هزيمة جيشه ونظامه، وهزيمة التيار القومى البعيد عن الدين، ولذلك وجدوا فى أنور السادات ضالتهم لأنه سار على عكس طريق عبد الناصر تماما واحتضن التيار الإسلامى باعتباره رئيس دولة العلم والإيمان.
انتهى العصر بثأر بين الإخوان والناصريين، ثم انتهى عصر السادات بثأر بين أنصار الاستسلام لأمريكا وإسرائيل والنظام الرأسمالى الذى فتح الباب لنهب ثروات مصر وسمح بنشأة طبقة من اللصوص حتى تحت مسمى رجال الأعمال، وبين من رأى فى السادات رجلا وطنيا واقعيا مد العمران إلى الصحراء وأعاد سيناء وأعاد الملاحة إلى القناة وأعاد الاعتبار للجيش المصرى ضد إسرائيل قبل أن يعقد معها سلاما اختلف المؤرخون حوله.
انتهى العصر الساداتى بمأساة اغتياله فى ذكرى الانتصار فى أكتوبر فصار الإرث الساداتى السلبى والايجابى مضافا إلى الإرث الناصرى بكل سوءاته وإيجابياته أمام نظام مبارك الذى توسع فى الفساد والقهر والتضيق على الحريات والتزوير وتدمير المؤسسات، لكن حكمه استطال لثلاثين عاما أى ما يفوق مدة عبدالناصر والسادات معا وسمح بثورة شعبية عارمة عام 2011.
ومن المفيد أن يتحاور الكتاب والمعاصرون والمؤرخون حول الأحداث العاصفة منذ 25 يناير. فى هذا المقام من المفيد أن يكون لدى المؤرخ زاد سياسى وقانونى يعينه على النظر المستقيم إلى الأحداث.
فالكل رأى 25 يناير ثورة كاملة بقطع النظر عما أحدثه بها غيرها. ولم يتحفظ عليها إلا نظام مبارك الذى قامت الثورة عليه. هذه الفترة تطرح أسئلة تحتاج إلى إجابات تحليلية متنوعة ولكن المشكلة أنه بغير الحرية والمعلومات لا يمكن للمؤرخ أن يكتب تاريخا يعتد به. فقد أدى نقص الحرية والمعلومات إلى الطعن فى مصداقية التاريخ المصرى والعربى بالذات المعاصر، بل التاريخ الحديث كله إذا كانت الأسرة الحاكمة فى أى بلد عربى تغطى القرنين الماضيين كما هو الحال فى دول الخليج والأردن والمغرب . أما تغير النظم، فإن المشكلة هى أن كل نظام يكون على مقاس الحاكم، ويزول مع الحاكم، ويبدأ بوصول الحاكم إلى السلطة تاريخ الدولة. لكل هذه الأسباب يجب إعادة تاريخ مصر المعاصرة على الأقل بعد التجرد من الانحيازات، وبكل حرية، وبعد الاطلاع على مختلف الآراء والاجتهادات التى يجب أن يتاح لها فرص الظهور والنشر. وهذه الأسباب هى التى تجرد التأريخ المصرى من المصداقية، ويتجه الباحثون إلى الكتابات الأجنبية أو التاريخ الذى ترسمه البرقيات الدبلوماسية للدول الكبرى فى مصر. فكيف نعيد الاعتبار والمصداقية للمدرسة التاريخية المصرية وللتاريخ المصرى عند شبابنا المعاصر والأجيال القادمة، وحتى لا ينزوى الشرفاء فى زوايا النسيان فى تاريخ السلطة.
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.