لا تدفن النعامة رأسها في الرمال لتهرب كما يدعي البعض مدللين بذلك علي حمقها وجهلها، إذ تكتفي بإخفاء رأسها بينما يبقي جسمها الضخم هدفا ظاهرا للأعداء. الحقيقية أنها عندما تستشعر الخطر تضع رأسها تحت الرمال لتجس باطن الأرض إذ أن لديها قدرة عالية علي رصد وقع أقدام الأعداء من مسافات بعيدة وبذلك تتمكن من تحديد اتجاهاتهم وتقرر تحركاتها علي هذا الأساس وتحقق لنفسها الأمان. أما الطاووس فإنه يقف دائما واثقا متباهيا نافشا ريشه مستعرضا جماله فيصبح هدفا سهلا لأعدائه. يختلف سلوك الناس أيضا في أسلوب التفاهم مع الحياة والبشر، فمنهم من يظل ثابتا علي رأيه الخاص متباهيا بنفسه لا يسمع غيره وإن سمع لا يأبه ولا يهتم فرؤيته الذاتية تحجب ما عداها وإعجابه بما لديه يحول بينه وبين الإدراك السليم للحياة والتواصل المثمر مع البشر، وحتى لو حذره أحد من خطر يحيق به فإنه يتجاهله ولا يعترف به إلا بعد أن يقع ويصبح الكلام لا معنى له. البعض الآخر يفهم معنى الحوار ويرحب بمعرفة الرأي الأخر ويجري نقاشا حقيقا وتبادلا لوجهات النظر مع الناس والحياة وهو مستعد دائما لتعديل أدائه طبقا لمستجدات الواقع فهو يتحلى بقدر من المرونة العقلية والفكرية تتيح له التطور الدائم والتوافق مع الواقع، كما أنه يعتبر الإدراك السليم والفهم المستقيم لحقائق الحياة هو طريقه المؤكد للنجاح وتقليل الصراع وسرعة الوصول لتحقيق الأهداف والإنجازات. أراء الآخرين هي خلاصة تجاربهم ورؤيتهم للحياة والاستماع والتفهم الجيد لها بغير تحيز ولا مصادرة يعني إضافة عقولهم إلي عقولنا، ولا يعني ذلك أن نتخلى عن قناعتنا كلما سمعنا رأيا مختلفا ولكن أن نحرك مياه الفكر بداخلنا ونمدها دائما بروافد جديدة لتظل متجددة نقية مواكبة لعصرها، ولا نتركها راكدة آسنة. كان كبار العلماء والفقهاء المسلمين يتبعون قاعدة " رأينا صواب يحتمل الخطأ ورأي غيرنا خطأ يحتمل الصواب". هذه القاعدة الذهبية تبقي الباب مفتوحا دائما أمام الاجتهادات الجديدة والإبداعات غير المتوقعة، وتبقي خياراتنا دائما مفتوحة فالباب المغلق يعني النهاية ولأن الحياة متجددة وتسع الجميع فليس من حق أحد ولا من مصلحته أن يحتكرها وحده ثم يغلق الباب. لن ينتقص من قدرك إذا أدركت خطأك وصححته بل ستكون بذلك قد عدلت مسارك إلي الأفضل، فحاول دائما أن تخرج من أسر مونولوجك الداخلي، وتقيم حوارا مع الآخرين وجسورا تصل ذاتك بالموضوعات الموجودة خارجها. فلقد خلقنا الله لنتفاعل ونتبادل الخبرات والمعلومات ونثري الحياة وتثرينا قال تعالي " يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وأُنثَى وجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ " 13 الحجرات. الوسط الذهبي الذي هو خير الأمور يقع في المسافة بين حذر النعامة وغرور الطاووس، وبين سجن الذات والعقل المفتوح دائما حتى لا يكاد يبقي علي شيء ثابت، بين الاستماع فقط للصوت الداخلي والتشويش الدائم لصخب الخارج بين تضخيم الأنا واستبعاد الآخر، بين التعصب الجامد والمرونة المائعة. في هذا الوسط يظهر الإبداع والإنتاج الحقيقي الذي يعيش ويبقى وفي هذا الوسط يحيا السعداء.