في أحداث العنف بالتحرير يعيدنا بطش الشرطة ضد المتظاهرين إلى الزمن الماضي، زمن ما قبل ثورة 25 يناير، ويبدو أننا كنا واهمين بأن هذا الزمن قد أصبح من الماضي، ففي تلك الأيام الدامية قامت الشرطة بعملية بعث لماضيها الباطش اللعين حيث مارست كل فنون القتل والسحل والضرب والإهانة ضد من كانوا بالتحرير أحياء وأموات، وأظنكم شاهدتم رجل الشرطة وهو يسحل جثة شهيد ويلقيها بجوار القمامة دون اعتبار لحرمة الأموات. لا ثورة ضد انتهاك كرامة وحقوق الإنسان حصلت في مصر، ولا ثورة ضد ممارسات شرطة القرون الوسطى جرت وأطاحت بالأباطرة والطغاة، لا درس تعلمته الشرطة من أيام الثورة وإسقاط رؤسائها من فوق عروشهم؛ العادلي وبعده مبارك. بعيدا عن البحث الآن في أسباب الاعتصام بميدان التحرير، ثم قيام الشرطة بفض هذا الاعتصام صباح السبت وما أعقبه من احتجاجات وتفريق المتظاهرين بالقوة الغبية في تسارع للأحداث يحتاج لفهم متأن بعيدا عن ذلك، فإن تعامل الشرطة ووزيرها الذي أعطى قواته التعليمات، وكذلك من أعطاه التوجيهات وهو المجلس العسكري كان تعاملا فاشلا غبيا لا يليق ب "رطن" هؤلاء المسئولين جميعا عن الثورة وتغزلهم فيها، حيث يثبتون اليوم مرة أخرى أنه "رطن" للاستهلاك فقط، فهم في قرارة أنفسهم ربما غير مؤمنين لا بثورة، ولا بثوار، ولا بتغيير، ولا ببناء بلد على أسس جديدة من الحرية والديمقراطية، وأنه - لا قدر الله - لو عاد مبارك فجأة إلى قصر الحكم لهرولوا إليه يركعون أمامه ويعتذرون منه، ولو عاد العادلي إلى الداخلية لأقام له أيتامه أفراحا تمتد 40 ليلة وليلة. واضح أن الشعب المصري يعيش في كذبة كبيرة اسمها ثورة، لأنه على الأرض ومنذ أكثر من تسعة أشهر لم يتحقق له شيء من الثورة على أي صعيد، بل ساءت أوضاعه المعيشية، وتم إغراقه في الفوضى والانفلات الأمني والخوف من الحاضر والمستقبل حتى يكفر بالثورة والتغيير، فيرضى منكسراً بالواقع الجديد الذي يعيش فيه، وكأنه يعاقب على تمرده على حاكمه نصف الإله، فلا يكررها ثانية مع من يطمح أن يكون نصف إله جديد. أيا كان رفض السلطة الحاكمة التي هي المجلس العسكري لأي اعتصام بالتحرير، فإن أداتها التي هي الشرطة لم يكن يجب أن تعود إلى سيرتها الأولى في اللجوء لكل هذا العنف في فض الاعتصام بالقوة، ذلك أن هيبة الشرطة، وهيبة السلطة، وهيبة الدولة لن تعود بتلك الأساليب الغشيمة. لكن فائدة ما جرى أنه كشف عن القناع المزيف الذي ترتديه الشرطة منذ انكسرت في 28 يناير، الشرطة القمعية لا تريد أن تنسى لحظة الانكسار، ولا تريد أن تفرط في دولتها التي يجب أن تهدم وتزال انقاضها ليعاد بناء شرطة إنسانية تحترم آدمية الناس الذين ينفقون عليها، لكنها تقاوم هدم البناء المتداعي الذي لم يؤسس على احترام كرامة المصري، إنما على ممارسة كل ما هو فاحش وشاذ وغير إنساني ضده. ماذا لو كانت الشرطة ومن ورائها المجلس العسكري قد تركوا المعتصمين في صينية الميدان، وهم كانوا بالعشرات فقط، وكانت حركة المرور ستستمر، بل ماذا لو كانت الحكومة ومن ورائها المجلس العسكري قد استجابوا لمطالب الجرحى وقاموا بحل مشاكلهم قبل اعتصامهم، وهي مطالب طبيعية ومشروعة، ولو لم يكن لهم حق فيها لما بادر رئيس الحكومة عصام شرف واجتمع مع اللواء محسن الفنجري عضو المجلس العسكري صباح الأحد الماضي لإزالة معاناة الجرحى، لماذا تتأخر السلطة الحاكمة عن حل المشاكل والأزمات منذ 11 فبراير حتى اليوم ؟ فلا مشكلة فئوية تحل، ولا مطلب سياسي يستجاب له إلا إذا تم التظاهر أو الاعتصام في التحرير أو في غيره. المؤسف أن نجد قوات من الجيش تشارك الشرطة في القمع وممارسة العنف المفرط ، وهذا لم يكن متوقعا أبدا من الجيش الذي يتفاخر بأنه جيش الشعب وأنه لم ولن يوجه بنادقه يوما إلى صدورهم. لقد تورط الجيش في ممارسات عديدة منذ الثورة حتى أحداث التحرير العنيفة الأخيرة تصيبنا بالألم سواء بمسئوليته المباشرة عنها أو لكونه من يدير البلاد. واضح أن الشرطة تنتقم من المصريين بسبب ما حصل معها خلال الثورة، مع أنها هي التي قتلتهم وأصابتهم وهي التي انهارت بعد أن عجزت عن مواصلة السباحة في دمائهم. الشرطة لا تريد أن تتطهر من دنسها الطويل في معاملة المصريين، إنما تريد أن تثأر، ولذلك كانت ممارساتها في التحرير ثأرية انتقامية. كان تعاملها فيه غل وحقد وكراهية وهي تقمع المتظاهرين. لماذا لا تريد الشرطة أن تمد يديها للشعب لمصالحته بدل قتله؟. [email protected]