دائما ما تتلألأ أمامي الحكمة العُمَرِيّة: "واللهِ ما خانَ أمين قط ولكن أؤتمن غير أمين فخان". وأنا أتأمل الواقع المصري بعد ثورة يناير التي على وشك السرقة مع سبق الإصرار والترصّد؛ سرقة علنية في رابعة النهار كما يقولون؛ وبالشهود الزور الواقفين على أبواب الوطن مثلهم مثل الشهود الزور الواقفين على أبواب المحاكم. وأغلبهم شهود المجلس العسكري الزور هم بأعينهم وذواتهم وأشخاصهم نفس الشهود لعصر مبارك الأسود وزبانيته المجرمين الذين يحاكمون مدنيا في الوقت الذي يحاكم فيه شباب الثورة عسكريا؛ وهذا ليس من سخرية القدر بل من مفارقات القدر وعجائب السياسة في مصر المحروسة رغم الظَلَمَة الجدد. قول شائع وحقيقة معروفة في أغلب البلدان والثقافات: أن الثورات يقوم بها الشجعان ويجني ثمارها الجبناء والانتهازيون. لكن في مصر الوضع أغرب من ذلك: شعب قام بالثورة؛ المفروض أنها نجحت غير أنها للأسف لم تُزِلْ إلا رأس النظام ثم يقوم جسد النظام السابق وبقاياه بمحاكمة من تبقى من أصحاب الثورة الحقيقيين (الذين من المفترض أن ثورتهم نجحت). ما خان أمين قط لكن الشعب استودع ثورته لمن أودع النظام السابق عنده أماناته وكان عليه أن يختار؛ واختار وشهد بما كان قد صرّح بعكسه من قبل. اختار جسد نظام مبارك الحفاظ على بقايا الماضي وأدار ظهره للمستقبل؛ اختار الاصطفاف بجوار الظالم وأعانه على ظلمه وترك المظلوم في العراء يشكو إلى الله ظلم الجلادين والقنّاصة الذين تنكر وزارة الداخلية وجودهم أصلا؛ وقد رأيناهم ورأينا شارتهم على أكتفاهم وتم تصويرهم صوتا وصورة. ما خان أمين قط لكن الشعب استودع ثورته حركات دينية وأحزاب سياسية (غثاء كغثاء السيل) أخذت تتكالب على قصعة الوطن تأتي على ما بقي فيها؛ تظن أنه لا زال فيها شيئا. حركات وأحزاب لم تكن (في جملتها) على مستوى اللحظة التاريخية ولا على مستوى الأحداث تفكر في مقاعد برلمان الثورة بمنطق توزيع غنائم لحروب لم تخضها إلا متأخرة (على فرض خوضهم لها) يفكرون في غنيمة مقاعد برلمان صمم ليكون برلمان الفلول وليس برلمان الثورة؛ برلمان قد رُسِمَت معالمه مسبقا وحُدِدَت قواعده سلفا ليشرعن سلطة العسكر ويجعلهم آلهة تعبد من دون الله لا راد لمشيئتها ولا معقب لحكمها. سلطة تريد أن تتحكم في 80% من مخرجات العملية السياسية عند وضع الدستور وتترك لأصحاب القصعة 20% أو هكذا يفكرون أو بالأحرى يمكرون. وأشباه رجال دين هم أشد شبها برجال الكهنوت في العصور الوسطى؛ يستغلون شعائر الحج ومشاعر الحجيج ورمزية المكان وقدسية المناسبة ليوطنوا لسلطان الظالمين في الأرض مغتصبي السلطة الجدد؛ ألا لعنة الله على الظالمين ومن أعانهم على ظلمهم. رجال كهنوت (وليسوا علماء) كان من المفترض أن يكونوا أدلاء للخلق على الطريق فإذا بهم قطاع طرق. ورحم الله شيخ الإسلام ابن تيمية عندما سأله خياط السلطان: هل أنا من الذين ركنوا إلى الذين ظلموا؟ فقال له لا؛ بل أنت من الظالمين. الذين ركنوا لمن باعك الخيط وهو لا يعلم. ولا شك أن من يفصّل للمستبد القوانين والوثيقة تلو الأخرى أشد لعنا. الواقع المصري واقع بئيس قاتل الله من قتل فرحتنا بثورة عظيمة ظننا وبعض الظن ليس بإثم أن شمس الحرية قد أشرقت علينا وأن الله أذن لهذه الأمة أمر رشد يحكم فيه بقانون العدل ويتساوى الناس فيه. قاتل الله من قتل فرحتنا بثورة عظيمة ظننا فيها أن الأمر يوسد لأهله وما هي إلا فترة انتقالية لا تتجاوز الستة شهور نتحمل فيهم حكم العسكر (الثقيل على العقل والقلب) ثم يرجعون إلى ثكناتهم في أمان الله مصحوبين بدعوات الشعب؛ وما شهدنا إلا بما علمنا وما كنا للغيب حافظين؛ تعامى أكثرنا عن أن العسكر: إذا دخلوا لا يخرجون؛ وإذا حكموا لا يعدلون؛ وإذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة؛ وكذلك يفعلون. ما خان أمين قط لكن الشعب المصري أستودع أمانته من ليس لها بأهل فخان؛ ترك حكمه في يد من لا يترك الحكم إذا حان وقت التسليم وانتهت الستة أشهر. لو استقبلنا من أمرنا ما استدبرنا أليس كان من الخير لمستقبل مصر أن يتولى السلطة مجلس انتقالي يُمثل فيه أحد أركان المؤسسة العسكرية بدلا من التسليم المطلق لعسكر لا زالوا يعيشون ويريدون منا أن نعيش في الماضي. صحيح أن الأمر يحتاج إلى قدر من الشجاعة الأدبية والخلقية للاعتراف بالخطأ وهو تقصير وليس قصور؛ نعم خشينا استبداد العلمانيين (وهم أهل استبداد بحق) فوقعنا في استبداد العسكر (وهم مصانع الاستبداد ومحتكري إنتاجه وتصديره) لكن الاعتراف بالحق قيمة من قيم الإسلام العظمى؛ والرجوع للحق خير من التمادي في باطل العسكر. كلمة أخيرة: من روائع شيخ الإسلام ابن تيمية: أمور الناس تستقيم في الدنيا مع العدل الذي فيه الاشتراك في أنواع الإثم أكثر مما تستقيم مع الظلم في الحقوق وإن لم تشترك في أثم؛ ولهذا قيل إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا يقيم الظالمة وإن كانت مسلمة، ويقال: الدنيا تدوم مع العدل والكفر ولا تدوم مع الظلم والإسلام.