من الأمور التي استقرت وصارت مسلمات أن التعليم مسئولية الأسرة وليس مسئولية المدرسة أو وزارة التربية والتعليم ، الأب يدفع شطرا كبيرا من دخله للدروس الخصوصية والأم هي التي تذاكر وتتابع وتحفظ وتسمع وتتواصل مع المدرسة ، واقتصر دور المدرسة والوزارة علي توفير الشكل القانوني والرسمي للتعليم من إجراء الامتحانات واعتماد الشهادة الدراسية . وهكذا سقطت مجانية التعليم وأصبح أيضا طبقيا فقد صارت الطبقة الدنيا تعزف عن إلحاق أولادها بالمدارس فلا قبل لهم بتكاليف الدروس الخصوصية ولا إمكانية ثقافية للمتابعة والمذاكرة ، التعليم الحكومي ( المجاني سابقا ) صار يلتهم جانبا كبيرا من دخل الطبقة المتوسطة ويبدد طاقة الأم ويشتتها ويهدد السلام العائلي للأسرة في البيوت التي تحولت في أحيان كثيرة إلي فصل دراسي وبعدت بذلك عن دورها الأصلي كمكان للراحة والترابط العائلي . وصل الأمر إلي أن المعلمة في الصف الأول الابتدائي ومع أول يوم دراسي تجري امتحانا تحريريا علي السبورة للتلاميذ الجدد ، لم تراع أن هؤلاء الأطفال لم يعتادوا بعد علي المفاهيم المدرسية ، وأن أغلبهم لا يعرف كيف يتعامل مع زملاء الفصل ولا يفهم جيدا لماذا ترك أحضان أمه ولعبه وجاء ليجلس في هذا المكان المخيف وسط الغرباء وما الذي ينتظره مع هذه السيدة الغريبة ذات الصوت الآمر التي هي المعلمة ، لقد تحولت المعلمة إلي مفتشة حتي أنها لا تكلف نفسها مشقة الشرح بل هي تقوم باختبار التلاميذ وتمليهم الدرس الأول في الكتاب مباشرة لتعرف هل شرحت لهم الأمهات ودربتهم جيدا أم لا ؟ ثم إنها تعتب بعد ذلك علي الأم فتقول ( ابنك يحتاج المزيد من الشرح والتدريب ) ثم تبرر موقفها ( يجب أن يكون هناك تعاون بين البيت والمدرسة ، المدرسة وحدها لن تفعل كل شئ ) هكذا !! كلاما يبدو كأنه حقيقي وكأن هناك دورا للمدرسة سواء تربويا أو علميا . لا يقتصر الأمر علي تراجع الدورالتربوي والتعليمي بل إن المدرسة صارت جهة سلطوية تسلطية تغرس بذور الخوف و الميول الدفاعية العدوانية لدي الأطفال ، وفي كتاب تربوي رائع عنوانه الأصلي ( السعادة والتربية ) وترجم بعنوان ( تعليم بلا دموع ) تتحدث الكاتبة (نيل نودينجز ) عن سقوط وفشل تلك الذريعة القديمة ( ستشعر بالامتنان لي يوما علي ما سببته لك من تعاسة ) وهي المبرر الذي يسوقه المعلم لاستخدامه لأساليب العنف والضرب والقسوة والتسلط في التعليم من أجل مصلحتك، ولكن الحقيقة ليست كذلك فكما تقول الكاتبة ( إن الطلبة السعداء يتعلمون أفضل من التعساء وأن السعداء نادرا ما يتصفون بالخبث والعنف والقسوة وأن هناك إمكانية ليتم التلازم بين التربية والتعليم وبين الشعور بالسعادة ) لي تجربة شخصية مرت بي بعد التحاقي بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية فقد اخترنا اللغة الإيطالية كلغة ثانية وفي السنة الأولي قام بتدريس المنهج لنا مدرسا مصريا جعلنا كالعادة نكره اللغة والدراسة والمحاضرة التي يسيطر عليها جوا ثقيلا مملا وتبدو الساعة فيها دهرا ، كانت النتائج مؤسفة في نهاية العام مما أثار غيرة موظفا بالسفارة الإيطالية علي لغته فتبرع بتدريسها لنا في السنوات الثلاث التالية ، جعلنا ذلك المعلم التربوي نخوض تجربة فريدة في حياتنا وهي التلازم بين السعادة والتعليم ، كان يشرح بأسلوب جذاب ويشركنا جميعا معه ويترك لنا حرية التعليق والمشاركة حتي أن الوقت كان يمر في لمح البصر وكان الجميع حريصا كل الحرص علي الاستمتاع بحضور تلك المحاضرة التي كانت تمزج التعليمي بالتربوي بالثقافي وكنا نخرج منها وقد هضمنا الدرس واستوعبناه تماما وكانت النتيجة أن الحصول علي تقدير ( امتياز ) صار هو السائد في الدفعة ودون جهد أو معاناة ، وإن كنا قد نسينا اليوم ما تعلمناه في المادة نفسها إلا أننا لم ننسي الكثير من الدروس التربوية والأخلاقية الراقية التي ارتبطت بها . نحتاج في مصر ثورة ثقافية تعيد الأمور إلي نصابها وتعيد تفعيل دور المدرسة في التعليم والتربية بالمفاهيم الحديثة وترفع العبء عن كاهل الأسرة المثقل بالأعباء وتصل بخدماتها إلي محدودي الدخل ، كما نحتاج إلي تنقية المناهج وتصحيحها لتخدم كل المفاهيم التي نسعي لترسيخها لدي النشء وتتفق مع قيمنا العليا وحتي يتم ذلك ألفين سلام وتحية للتعليم والمجانية . [email protected]