الإسلام لا يحرم الفن كما يدعى أو يظن البعض ، إنما الصحيح هو أن للإسلام نظرية فى الفن ، تختلف مع نظرية التجسيم والتجسيد السائدة فى معظم مجالات الفنون اليوم ، والصحيح أيضا أن نقول : أن للإسلام تصوره المختلف وأسلوبه المتفرد فى الطرح الفنى والتعبير الابداعى . وتتلخص نظرية التجريد الإسلامية فى أنها لا تعتمد على التجسيد ومحاكاة الواقع ونقل الصورة والمشهد للمتلقى كما هو ، إنما تعتمد على تحليل هذا الواقع وتفكيك تلك الأشكال والمشاهد والصور والشخصيات ، وإعادة بنائها من جديد ، لتقديمها فى صورة أكثر عمقا ، غايتها الكبرى إبراز تفاصيل القيمة والمشاعر لا تفاصيل الجسد ، واعتمادها على التوازن بين الماديات والروحانيات ، واهتمامها بسبر أغوار الكليات دون التعمق فى التفاصيل الصغيرة والجزئيات . ونستطيع أن نعبر ببساطة عن هذه النظرية فى جملة موجزة وهى : أن الفن الإسلامي يُعْنَى بالنفاذ إلى طبيعة الأشياء والى ما وراء المُجسم ، ولا يعنيه نقل الأشياء بطبيعتها وأشكالها الظاهرة . لذلك كانت مهمة المُبدع الإسلامي أعْقد وأصْعَب ، فهو ليس مجرد ناقل أو مُقلد ، ولكن النتيجة التى يحصل عليها فى النهاية عندما يُعرض عمله تستحق هذا العناء . فهو من جهة أدى مهمته الإبداعية التى تخدم الغاية الإسلامية السامية بتكريم الإنسان " ولقد كرمنا بنى آدم " ، وذلك برفعه من حدود التجسيد الحسية الضيقة إلى آفاق القيم والشعور ، والى الإحساس بالجمال بمعناه الشامل اللامحدود . ومن جهة ثانية فقد احترم المشاهد والمتلقى ؛ فلم يعمد إلى دغْدغَة غرائزه واسْتثارة ميوله الحسية بالتجسيد المباشر فيبقى مجرد متلقٍ سلبى خامل ، إنما يأخذه بالتجريد والرؤى البعيدة إلى التأمل والتفكير والتفاعل بخياله ليكتشف معه حتى رؤى جديدة وقيم يحتملها العمل وان لم يقصدها المبدع ابتداءً ، فيصبح الإبداع عملية مشتركة بين الفنان والمتلقى . ومن جهة ثالثة ، فقد حفظ للدين قدسيته ورسالته وللأخلاق شرفها ، وفى ذات الوقت فقد منح الفن طلاقته وحريته وأعطى الانطباع المستقيم للعلاقة بين الفن والدين ، وهى لمن يتأملها جيدا ليست علاقة تنافر وعداء وخصام ، إنما علاقة تكامل وتناسق وانسجام . وأقرب مثالين من القرآن والسنة ، أولا ما خطه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده الشريفة من خطوط ليرمز بها إلى قيم مطلقة ؛ فقد رسم رسولنا معانى الأشياء من ( أجل وأمل وأعراض ) لصحابته على هيئة خطوط ، و القيم والمعانى لا تُرسم ، لكن الرسول عَمِد الى رسمها على هيئة خطوط للترْمِيز وتقريب المعانى للمتلقى ، فى تجريد لا يُجسم ولا يظهر تفاصيل الأشياء ، إنما يعبر عن القيمة التى يمثلها . والمثال الأوضح فى القرآن قصة يوسف عليه السلام مع امرأة العزيز ، وكيف نقلها كتاب الله جل وعلا بعيدا عن التجسيم والتجسيد والخوض فى تفاصيل الحدث ، ليخرج من العرض المبهر بالقيمة والدرس ، وليواجه الجزئيات المنحرفة ليردها لأصلها النظيف ، وليضعها فى مسارها الطبيعى ، كطريق للهداية والنور ، وليس طريقا للضلال والظلام . وللحديث بقية ان شاء الله .