وصلتاني هذه الرسالة "المقالة" من الأستاذ خلف عبد الرؤف المحامى يقول فيها: العلامة الجليل وشيخ المحدثين فضيلة الشيخ أبو اسحق الحوينى هو فارس فى فنه وعلمه الذى انقطع له لعقود وهو علم الحديث رواية ودراية حتى تفتحت له أبوابه وتكشفت له أسراره فتسلم مفتاح كنزه وحاز فيه قصب السبق . لكنه حين يتطرق للحديث فى السياسة وغيرها من القضايا المعاصرة أشعر أنه يطرق أبوابا تأبى أن تفتح له ويرتاد ميدانا ليس له فيه صولة . سمعت له محاضرة منذ أيام على إحدى الفضائيات يبدو من سياقها أنها ألقيت من قريب ، تطرق فيها الشيخ للعمل السياسى من خلال الأحزاب وحذر فيها طلبة العلم والدعاة من الانخراط فى العمل السياسى والحزبى . إلى هنا والكلام مقبول إن كان النهى مرده إلى حاجة الأمة لدعاة وعلماء يتفرغون للدعوة والاشتغال بالعلم الشرعى تعلما وتعليما ، ولكن العلة التى لأجلها كان نهى الشيخ لا أراها تتفق وصحيح النظر ، ذلك أن الشيخ بنى نهيه على أساس أن السياسة تعنى المصلحة ولو كانت مع الشيطان فلو كانت المصلحة مع الشيطان ليس فقط تضع يدك فى يده ولكن تعانقه وتحتضنه ، ثم انك فى مجال العمل السياسى _ والكلام للشيخ فأنت تتعامل مع خصوم ليسوا شرفاء فأنت أمام أحد أمرين إما أن تتمسك بدينك وتتعامل معهم وفقا للقيم والأخلاق الإسلامية وبالتالى فسوف تكون منبوذا بينهم ولن تحقق أى مصلحة أو نجاح وإما أن تتعامل معهم بأسلوبهم وطريقتهم وعند ذلك ستفقد مصداقيتك عند الناس ولن تعود كما كنت من حال الطهر والنبل الذى كنت عليه كداعية أو طالب علم ، وعندها إذا رجعت الى دعوتك التى كنت عليها فلن تكون مقبولا عند الناس بعدما فقدت مصداقيتك ومكانتك . انتهى كلام الشيخ وصحيح النظر فى الدليل والواقع ومقاصد الشريعة وأحكامها يقتضى خلاف ما ذهب اليه الشيخ ، فإن كان أهل السياسة من غير الملتزمين بأحكام الشرع يمارسون السياسة على هذا النحو المجرد من القيم والأخلاق فليس هذا هو السبيل الأوحد لممارسة العمل السياسى بحيث أننا إما أن نمارس به العمل السياسى فنتلوث بدنسه وإلا فلا . ولو صح هذا لما جاز لمسلم أن يمارس العمل السياسى أصلا سواء كان من طلبة العلم أو كان من عوام المسلمين فالتزام القيم والخلق الإسلامى والأحكام الشرعية هو خطاب من الله تعالى لكل المكلفين من المسلمين وليس لطلبة العلم فقط . بل إن ما ذهب اليه الشيخ إنما يفضى من حيث لم يرد الشيخ الى تصحيح باطل مقولة العلمانيين من أنه لا دين فى السياسة ولا سياسة فى الدين ، وأن الدين مقدس وأن السياسة دنس ولا يصح خلط هذا بذاك وأن على أهل الدين أن يتفرغوا للدعوة والعبادة وعمارة المساجد ويتركوا ساحة العمل السياسى لأهل السياسة من المدنسين الملوثين . إن السياسة وهى فن قيادة الشعوب أو هى فن الممكن أو غير ذلك من المفاهيم والتعريفات هى من صميم التكليفات الشرعية التى ينبغى أن يقوم لها من تتحقق بهم الكفاية من أهل كل بلد وعليهم أن يمارسوها بما يليق بهم من خلق قويم واستمساك بمبادئ الدين واحتكام لشرائعه ، ومن بينها السعى لتحقيق المصالح فليست المصلحة رجس من عمل الشيطان ولكنها مراد الشارع الحكيم فيما شرعه لنا . وقد مارس النبى صلى الله عليه وسلم السياسة مع خصوم من أعتى الناس كفرا وأكثرهم غدرا وأحطهم خلقا فلم يحد عن قيمه ولم ينجرف الى أساليبهم ، ومع ذلك لم ينقلب بخسران وما باء بفشل بسبب تمسكه بالدين وقيمه بل حقق نجاحا ( إن صح التعبير ) لم ينعقد لأحد من البشر دونه فأقام دولة نمت وتمددت فى حياته ومن بعده دون أن يجد نفسه مضطرا لأن يختار بين التمسك بالدين وقيمه النبيلة وبين تحقيق المصالح العليا لدولته من خلال العمل السياسى . إن دنس السياسة إنما مرده إلى سفالة العاملين بها وليس طبيعة لا تنفك عنها ، وإن المسلم ينبغى عليه أن يخوض غمارها ويتقن فنونها ويتعلم أساليبها متسلحا بقيمه مستمسكا بأخلاقه . أما التحالف مع هذا أو ذاك تحقيقا للمصلحة فلا شئ فيه ما دام التعاون أو التحالف يهدف إلى تحقيق مصالح البلاد والعباد المشروعة ، فقد شهد النبى صلى الله عليه وسلم حلف الفضول فى دار عبد الله ابن جدعان وقال لو دعيت لمثله فى الإسلام لأجبت ، وهو حلف بين مشركين يستحلون الخمر والزنا ولكنهم هنا تحالفوا على نصرة المظلوم . وعلى هذا تجرى الأمور فى عالم السياسة ، وليس فى ذلك ما يهدر مصداقية المسلم أن يتعاون اليوم مع فئة بعينها ويتحالف غدا مع أخرى حتى ولو كانت على غير ما نحن عليه من دين أو فكر ، ما دام التحالف قائم على تحقيق مصلحة الوطن وليس من أجل تحقيق مصلحة شخصية ضيقة ، بلا غدر أو نقض لعهد ، فقد صالح النبى صلى الله عليه وسلم قريشا فى الحديبية وقال : والذي نفسي بيده لا يسألونني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها ، وليس هذا تحالفا مع الشيطان ولا انتصارا للمصلحة على حساب قيم الدين ومبادئه وانما هو انتصار للحق وتحقيق للصالح العام . وهذا هو سبيل النجاح لا الفشل ، وسبيل كسب احترام الآخرين لا احتقارهم أو نبذهم ، وهو إضافة للداعية وطالب العلم شرط أن يكون مؤهلا فكريا وعمليا لممارسة العمل السياسى ، وليس انتقاصا من قدره أو إساءة لما يحمله من طهر الأخلاق ونقاء السريرة ، وترسيخ لمبدأ السياسة الأخلاقية وتأكيد على أن الدين حين يدخل إلى السياسة يطهرها وينقيها دون أن يلتاث بأدرانها أو يتيه فى دروبها المتشعبة . وعذرا شيخى الجليل على معارضتى إياك الرأى ، فالحق أحب إلى وإليك . انتهت [email protected]