في ظل الأحداث المتسارعة في الوطن، مر الخبر بهدوء، ومن دون أن يحظى بالحفاوة، أو التغطية الإعلامية الواجبة، ظن البعض أنه مجرد حدث عادي، وذلك على الرغم من أن جاء بعد كفاح استمر عقودًا طويلة، وكان كالحلم الذي تمنى أن يراه الأجداد على مدار العصور. أنا الآن أتحدث عن القرار الحكومي الذي اتخذه رئيس الوزراء السيد "عصام شرف"، والذي يقضي بحق عودة النوبيين إلى قرى ما قبل تهجير عام 1964، بالإضافة إلى إنشاء هيئة عليا لتنمية النوبة، بمعاونة وزراء الكهرباء والإسكان والزراعة والثقافة والإعلام، واعتباره مشروع قومي لتعمير مناطق جنوبالوادي. البعض نظر إلى الخبر بفتور، من زاوية الاستجابة للمطالب الفئوية التي انتشرت كثيرًا بعد الثورة، وهم معذورون في ذلك، فقد اختلطت المطالب في الأشهر الأخيرة، وأنسى بعضها بعضًا، ولكن حقوق أهل النوبة لم تكن أبدًا مطلبًا فئويًا، وإنما هي حقوق مشروعة، توارثتها الأجيال نتيجة ظلم حقيقي وغير مبرر، وعلى الرغم من أن قضية النوبة قديمة قدم الدولة المصرية الحديثة، إلا أن صوتها - كغيرها من أصوات المضطهدين- كان مدفوناً تحت جدران من الظلم والفساد، وكغيرهم من المضطهدين أيضاً عاد إليهم الأمل، بعد انهيار جدار النظام السابق، فارتفعت أصواتهم للمطالبة بحقوقهم المسلوبة خلال عشرات السنين، من حق أهل النوبة أن نشاركهم الفرحة، فقد بدا بداية الحل لقضيتهم وشيكًا، ومن حقهم كذلك أن نتعرف أكثر على قضيتهم، ونفتح ملفاتهم المغلقة منذ عشرات السنين. في مطلع القرن العشرين كانت بلاد النوبة تتكون من 39 قرية على ضفتي النيل، تمتد من جنوبأسوان، حتى وادي حلفا بالسودان، بطول 350 كيلومترًا، وبمساحة تبلغ حوالي 82 ألف كلم، أي ما يعادل مساحة دولة الإمارات تقريباً، ويبدو أن موقع أهل النوبة المتميز كان وبالاً عليهم، فهو المكان الذي يمكن من خلاله التحكم في نهر النيل، والاستفادة من المياه المهدرة نتيجة الفيضانات، وكان خزان أسوان أول هذه المشروعات الكبرى، حيث تم تعلية الخزان عدة مرات، ومع كل مشروع كان النوبيون يدفعون الثمن غالياً، لأن المياه التي يحتجزها الخزان، والتي تزداد مع كل تعلية، كانت تغمر أراضي النوبيين ومساكنهم، مما يجعلهم في حالة تشريد وهجرة دائمة، في ظل ظروف سيئة بلا مأوى أو تعويض مناسب عن ممتلكاتهم، حتى جاء المشروع الأكبر وهو السد العالي، والذي كان يستلزم إنشاؤه إزالة جميع القرى النوبية بدون استثناء، لتبدأ المأساة الأكبر.. بالتهجير السريع والعشوائي لأكثر من مائة ألف مواطن، رغبة في إخلاء بلاد النوبة قبل العام 1964، موعد تحويل مجرى نهر النيل، فترك الأهالي الكثير من متاعهم في الوطن المهجور، ومما زاد من ألمهم أن الحكومة في ذلك الحين بدأت حملة دولية لإنقاذ آثار النوبة، التي تعد ثروة حضارية، أما البشر الذين قاموا ببناء هذه الآثار وتعايشوا معها فكانوا في ذيل اهتمامات الدولة والمجتمع الدولي، فتم ترحيلهم على عجل إلى "كوم أمبو" و"إسنا"، إلى منطقة صحراوية لا نهر فيها، ولا أي شكل من مقومات الحياة الأساسية. حتى التعويضات الهزيلة التي تم تقديرها، فهي لا تكاد تكفي حد الكفاف، ففي الوقت الذي قامت فيه الحكومة السودانية بتقديم تعويض لائق للمتضررين السودانيين من أهل النوبة، بمنح كل صاحب مسكن مساحة 15 فداناً، وضعف المساحة للنوبي الذي يملك أرضًا زراعية، فإن الحكومة في مصر قامت بتوزيع ما سمي بفدان الإعاشة، والذي تبلغ مساحته الحقيقية حوالي 14 قيراط للأسرة كلها، وكانت المصيبة أن تعريف الأسرة وفقًا للقرار الوزاري رقم 106 لسنة 1962 كان فيه الكثير من "الاستعباط"، فبينما نعرف جميعًا أن الأسرة في المجتمع المصري تعني الزوجين والأطفال، فقد اعتبر القرار أن الأسرة المستحقة للتعويض هي التي تتكون من زوجين ووالدين والأبناء والأحفاد، ويكون لها الحق في مسكن واحد فقط. نشأت الأجيال الجديدة من أبناء النوبة وهي تحمل في قلبها الكثير من الحنين إلى الموطن الأصلي، وهو ما دعاها إلى الحفاظ المستمر على التقاليد والتراث النوبي المتميز، ارتفعت أصواتهم المطالبة بحقهم المشروع، ولكن الغريب أن كل الأنظمة السابقة كانت ترى أن تواجد أهل النوبة في مكان واحد فيه خطر على الأمن القومي، ودائمًا ما كانت تظهر المخاوف من تجميع القرى النوبية في كيان كبير موحد، بدعوى أن ذلك يفتح الباب لإمكانية المطالبة بالانفصال، أو تحول أهل النوبة إلى قوة ضغط، ولذلك لم يكن مستغربًا ما قامت به الحكومة في عهد مبارك، حين منحت منظمة "الفاو" التابعة للأمم المتحدة ما يزيد عن المليار جنيه، لإعادة توطين النوبيين على ضفاف بحيرة ناصر، فلم يكن من الدولة إلا أن قامت بتوطين الفلاحين من "البحيرة" و"كفر الشيخ" بدلاً من النوبيين، وبالأموال التي أرسلت من أجلهم. إذا كانت مشاكل أهال النوبة قد أخذت طريقها الآن للحل، بمنح الحكومة الحالية 4 آلاف عقد تمليك شقق للمستحقين من أهالي النوبة في مشروع خزان أسوان، وتخصيص 3700 فدان في منطقة "توشكى"، كتعويض عن الأراضي الزراعية للنوبيين غير المقيمين، بالإضافة إلى البدء في المشروع القومي لتعمير منطقة جنوبالوادي، فإن الكرة الآن في ملعب كل نوبي، الآن.. حان وقت التحدي الحقيقي، ما أسهل أن نستمر في التذمر والشكوى، ورفع الصوت المطالب بدفع الظلم والاضطهاد، ولكن الأصعب من ذلك أن نتحول إلى مرحلة البناء والعمل، فكر فيما يمكن أن تقدمه لوطنك، كيف يمكن أن تصبح المناطق الجديدة التي سيتم تعميرها منارات حقيقية للتنمية والثقافة والحضارة؟ أرجوكم.. لا تنتظروا ما ستقدمه الحكومة فقط، فمن غير مساندة مؤسسات المجتمع المدني، بالإضافة لفكر وعقل كل مصري، لا يمكن أن نحقق النهضة التي طالما حلمنا بها. [email protected]