وصلتني ستة تعقيبات من القراء على مقال الأسبوع الماضي المعنون "لماذا أرفض مقاطعة الدنمارك؟" : أربعة (من المهندس محمد الرملي والأخوة فادي ومحمد يوسف والمهندس سيد محمد علي) مؤيدة لما ذهبت إليه ، وإثنان معارضان من الأخوة أحمد يونس وأحمد سليمان. ولا يوجد أعز على الكاتب من أن تصله تعقيبات على كتاباته ، لأن التفاعل يثري الحوار ويطلق مزيد من الأفكار المعبرة عن وجهة النظر، معارضة كانت أوسائدة. ولا جدال في أن الوجهة السائدة في موضوع الدنمارك هي المقاطعة دون النظر لما يترتب عليها. كما أن هناك كثيرين يشعرون بأن المقاطعة خطأ ، ولكنهم يتخوفون من إعلان المعارضة للوجهة السائدة. وأنا أشكر الأخوة الستة الذين كتبوا لي لا لشئ إلا لإيجابيتهم وتفاعلهم مع هذه القضية الهامة ، حيث أن أهم ما يحتاجه المسلمون اليوم هو إستخدام سلاح القلم (واللسان) للمشاركة في حمل هموم الوطن والمسلمين بمقارعة حجج بعضهم البعض. وأشكر بالذات المعارضان (يونس وسليمان) لأن خطابيهما أوحيا لي بفكرة كنت كتبت عنها منذ سنوات مرتبطة بحجج دعاة التطبيع مع إسرائيل ، وأراها الآن تنطبق على دعوة مقاطعة الدنمارك. ولذلك فإني من أنصار المعارضة والنقد ، لأنهما يمنحان فرصة للكاتب للعودة عن رأيه (إن كان خاطئا) أو تأكيده (إن كان منطقيا وسليما). أود بداية توضيح سوء الفهم الذي قد يقود إليه عنوان المقال السابق : فرفض مقاطعة الدنمارك لا يعني من جانبي إلا إستخفافا بهذه الدولة ، وحمق رئيس وزرائها الذي رفض الاجتماع بمواطنيه المسلمين في أكتوبر الماضي (وقد إجتمع مؤخرا بوفدمنهم). والحكومة الدنماركية تنتمي إلى اليمين العنصري المستشري في مختلف دول أوربا ، وهو اليمين الذي حول عنصريته من إتجاه اليهود (المسنودين أمريكيا وإسرائيليا) إلى إتجاه المسلمين (الذين لاظهر لهم يستندون إليه). حتى الغضبة والثورة التي عمت العالم الإسلامي لم تكن من أجل مسلمي الدنمارك (وإنما دفعا للسفاهة عن رسولنا الكريم عليه أفضل الصلاة والسلام). إن الحكومة الدنماركية ترفض منح المسلمين (مائتي ألف مسلم دنماركي) ترخيصا لبناء مسجد في الدنمارك. وقد نشرت (الجارديان 15/2) مقالا كتبه كيكو داي ، وهو (أو هي) موسيقي دنماركي يعيش في لندن ، يهاجم فيه تحول بلده من الاعتدال إلى التشدد ، ويؤكد على أنه "لايوجد مسجد واحد للمسلمين في الدنمارك". وبالمناسبة فنفس هذا الوضع يعاني منه المسلمون في اليونان ، وربما دول أخرى من دول الإتحاد الأوربي. وإني أتساءل أيهما أحق بالثورة والدعوة للمقاطعة من أجله : رسوم كاريكاتورية تستهزئ بالرسول الذي كما قلت الأسبوع الماضي لا تضيره حماقة المستهزئين ، أم حرمان بعض مسلمي أوربا من بناء مساجد يقيمون فيها شعائرهم؟ لم أرى بلدا مسلما واحدا يثور على أوربا أو يدعو لمقاطعة بريطانيا وفرنسا عندما كانا يتواطآن مع الصرب في ذبح وإغتصاب عشرات الآلاف من مسلمي ومسلمات البوسنه. ألا يعبر ذلك عن خلل واضح في أولوياتنا؟ يقولون أن الأزمة الأخيرة وحدت المسلمين على قلب رجل واحد ، ولكن إلى أي مدى ؟ هل تقود وحدة العاطفة تلك إلى نهايات عقلانية ملموسة تتمثل في قوانين رادعة للعنصريين والصهاينة ؟ لا أظن. والأرجح أن حكوماتنا ستقبل بإعلان من الأممالمتحدة يدين السخرية من للأديان. ولكن شتان بين إعلان دولي لا يلزم أحد ، وقانون وطني ملزم لجميع المواطنين. إن المقاطعة سلاح خطير ينبغي إستخدامه بحساب ، والتفكير مليا قبل اللجوء إليه بطرح تساؤلين هامين : هل نحن جاهزون لاستخدامه ، وهل نحن مستعدون لتحمل عواقب إستخدامه؟ إن أحد أهم حجج الداعين لمقاطعة الدنمارك فقط دون غيرها، هو أن العجز عن مقاطعة قوة كبيرة كالولايات المتحدة أو فرنسا ، لا يعني ألا نقاطع دولة صغيرة كالدنمارك .. فهذه هي حدود إمكاناتنا ، والله لا يكلف نفسا إلا وسعها. ولكن هل حقا مقاطعة أميركا ليست في وسعنا ؟ وهل تجنبنا مقاطعة الدولة الصغيرة مقاطعة من هم أكبر منها؟ إن إيران لا تتلقى سنتا واحدا من أميركا ، وتقاطع منتجاتها ، وهي اليوم أكثر قوة ومهابة وإحتراما من أي بلد عربي. إنها حجة الإستكانة إلى الوضع القائم والأمر الواقع. وهي تذكرني بما كان يردده طوال التسعينات دعاة التطبيع مع إسرائيل : "السياسة فن الممكن الذي يوصلنا إلى الحد الأدنى من الحقوق" ، وهي الحجة التي عارضتها مع التطبيع وأعارضها اليوم مع المقاطعة. فالممكن يتعرض إلى مستحيل للبحث عن ممكن آخر أدنى من الأول ، والحدود الدنيا لا حد أدنى لها لأن السقوف دائمة الانخفاض. هناك شروط علينا أن نستوفيها قبل اللجوء إلى المقاطعة : فرض إحترامنا على الآخرين بانتزاع أوطاننا من مختطفيها ، وترتيب الأولويات التي تستحق إشهار المقاطعة والتجهيز للعواقب الناتجة عن ذلك ، ومأسسة الرقابة الإسلامية على وسائل الإعلام الغربية وتصريحات المسئولين هناك ، وإثارة الصخب والاحتجاج بالمظاهرات السلمية ونشر المقالات والخطابات في الصحافة الأجنبية إعتراضا على الإهانات المرصودة ، ورفع الدعاوى القضائية من جانب مسلمي أوربا أمام المحاكم الوطنية (حتى في غياب قوانين تجرم إهانة الإسلام) ، ثم رفع الدعاوى أمام محاكم حقوق الإنسان الأوربية، ثم الإعذار والتحذير من عدم تكرار الإهانات ثم في النهاية إعلان الحرب.. فإعلان المقاطعة هو بمثابة إعلان حرب إقتصادية. والغالبية التي دعت إلى مقاطعة الدنمارك فعلت ذلك ظنا منها أنها حرب لن تصيبنا بأضرار تذكر، وفاتهم أن الدنمارك عضو في الاتحاد الأوربي، ولم يتحسبوا لما سيكون عليه الوضع إذا وقف الاتحاد الأوربي مناصرا لأحد أعضائه في هذه الحرب ، وماذا سيكون موقفهم إذا ردت أوربا على إعلان الحرب على الدنمارك بإعلان الحرب الاقتصادية علينا ، وهو التهديد الذي صدر بالفعل عن البرلمان الأوربي في إجتماعه الأخير. إن أوربا تفرض علينا الآن تحديا وتحاصرنا في مأزق وضعنا أنفسنا فيه عندما أشهرنا سلاح المقاطعة دون التفكير في عواقب ذلك. ولمزيد من التوضيح أقول أني رفضت مقاطعة الدنمارك لعدة أسباب (راجع المقال السابق) منها صدور إعتذارات وتأسفات من الصحيفة ورئيس الوزراء. وهي إعتذارات وتأسفات أعلم يقينا أنها غير صادقة ، ومع ذلك كان علينا أن نقبل بها حتى نخرج من المأزق الذي وضعنا أنفسنا فيه بأقل الخسائر. سبب آخر هو أن المقاطعة غير المنضبطة ، وفي ظل ضعفنا وإستخفاف قادة الغرب بنا ، تجعل مهمة العنصريين والصهاينة أسهل في ضرب العلاقة الطيبة بين العرب وشعوب أوربا .. هذه الشعوب التي تظاهرت بالملايين ضد الحرب على العراق ، وصوتت باعتبار إسرائيل أكبر خطر على السلام العالمي. غير أن أهم الأسباب هو إيماني بأن مقاطعة الدنمارك هي المقاطعة الخطأ ، وأن مقاطعة من هم فوق الدنمارك هي المقاطعة الصواب شريطة الاستعداد الكامل لها. الأولى تدعو الآخرين لمزيد من الاستخفاف بقدراتنا والتوحد ضدنا ، بينما تفرض الثانية على الآخرين هيبتنا وإحترامنا ، وفرصة لنا للتوحد ضدهم. لقد إعتقد الداعون لمقاطعة الدنمارك أن أوربا ستتركنا نستفرد بهذه الدولة الصغيرة. غير أن قادة أوربا ليسوا أغبياء، وهم يدركون أن أساس هذه الدعوة هوالضعف والاستكانة (ولهذا لم نسمع دعوات لمقاطعة من هم أكبر وأقوى من الدنمارك وأشد إساءة للإسلام وسبا لرسوله). ولهذا أيضا ردت أوربا على الدعوة بالقول : "مقاطعة الدنمارك تعني مقاطعة الاتحاد الأوربي". وأخشى ما أخشاه أن نهرب من التحدي ونتراجع ونفاقم الإهانة الأولى (سب الرسول) بإهانة أخرى نحن المتسببون فيها. طموحي في مواجهة هذا التحدي الأوربي ينبع من الإيمان بأن مواجهة التحديات تفرز أفضل ما في النفس الإنسانية من قدرات وإمكانات. والمشكلة تكمن كما أرى في إستخدام نفس منطق الأنظمة المطبعة : نحن ضعفاء لا قبل لنا بإسرائيل ، ولهذا علينا أن نقبل بما هو "ممكن". وهكذا أصبحت السياسة عند المسؤول العربي هي "فن الممكن" ، أو السعي وراء الحلول الوسط لتحصيل "الحد الأدنى" من الحقوق . أما السياسة عند الصهيوني فهي فن المستحيل ، أو الإصرار على الحد الأقصى والحل الذي يتفق مع ما يطمح إليه من أهداف قد تبدو مستحيلة أمام عرب "الممكن". والأرجح أننا سنتراجع بالفعل أمام التحدي الأوربي ، وذلك بقبول "حل وسط" متمثل في الإعلان الدولي غير الملزم. سنتراجع لأن الأمر ليس في أيدينا كشعوب ، وإنما في أيدي الجماعات الفاسدة التي إختطفت الحكم في بلادنا ، وحلفاؤها من الأثرياء. عندما طرح صمويل هنتنجتون أفكاره عن حتمية التصادم بين الحضارتين الغربية والإسلامية ، لم تتعامل الأنظمة العربية الحاكمة مع هذه الأطروحة بصفتها إنذار أو إعلان نية قابل لأن يتبلور عنه تهديد جاد للعرب والمسلمين . وإنما إنصبت ردود الأفعال على تسفيه أفكار هنتنجتون وإدانتها دون إتخاذ إجراء واحد إستعدادا لما قد يتمخض عنها ، وذلك على الرغم من أنه في نفس الوقت الذي صدرت فيه هذه الأطروحة كانت المجازر منصوبة في البوسنة لمسلميها بتواطؤ أوربي أمريكي حظر على المسلمين كل ما يمكنهم من الدفاع عن أنفسهم . نحن مصابون بالبلادة .. بلادة في الإعداد للمواجهة التي توعدنا بها هنتنجتون ، وتقاعس عن توفير الأدوات اللازمة لها . بتعبير آخر، فإن إستخفاف العرب بتهديدات الخارج ناتج عن رغبة في تجنب بذل الجهد في الإعداد لها ، بقدر ما يمثل عجزا عن تقييم حجم وجدية التهديدات القائمة (مع صرف الإنتباه إلى خصوم الداخل) يؤدي إلى فشل في الإعداد السليم لها . ولو أننا أعددنا لهذه المواجهة منذ أمد لأمكننا اليوم أن نفرض على الدول الأوربية التسعة التي تجرم قوانينها التشكيك في الهولوكوست سن قوانين تجرم السخرية من الإسلام ورسوله. عندما إشتعلت إنتفاضة الأقصى عام 2000، إنطلقت النداءات العاطفية تطالب بشن الحرب على إسرائيل لنصرة إخواننا في فلسطين. لم يتحسب هؤلاء أن شن حرب يتطلب ليس فقط الإعداد لها حتى لا تتحول إلى هزيمة فادحة ، وإنما تتطلب قيادات مؤهلة لها. أما أن ندعو إلى حرب عسكرية أو إقتصادية دون الاستعداد النفسي والمادي لها ، وفي ظل قيادات مهزوزة مرتعشة خانعة مفلسة أخلاقيا ودينيا، لاتؤمن إلا بالعرش والمال ، فهذا هو الحمق بعينه ، فضلا عن أنه يتناقض مع ما يأمرنا به قرآننا ورسولنا عليه الصلاة والسلام. [email protected]