السبب الرئيس والجوهري لنجاح الثورة المصرية المهيبة التي تفجرت في 25 يناير ، بل سر انتصارها ، هو وحدة القوى الوطنية على اختلاف أطيافها وتوجهاتها ، ليبراليين وإسلاميين ويساريين وقوميين ، وحتى أطياف من الشعب غير مسيسة أصلا ولم تشتغل بأي عمل سياسي من قبل وجدناها في الميادين وميدان التحرير ، رمز الثورة ، كلهم تناسوا أي خلافات أيديولوجية أو ثقافية أو دينية أو طبقية أو فئوية ، وذابوا جميعا في إرادة واحدة تؤكد على ضرورة إزالة هذا النظام الفاسد والقمعي ، نظام البلطجة السياسية والأمنية والاقتصادية والإعلامية ، البلطجة بكل ما تعنيه ، فقد كانوا فوق القانون ، بل إن القانون نفسه كان مجرد هراوة في أيديهم أو سنجة ، يستطيعون أن يصدروه في نصف ساعة من خلال رمز التزوير الذي أطلقوا عليه البرلمان ليطعنوا به أي قوة أو يذلون به أي قطاع من الشعب . وحدة الإرادة الشعبية ترافقت مع وحدة الهدف ، وهو إسقاط نظام البلطجة ، ممثلا في رأسه ، مبارك ، وكان شعار الثورة هو : ارحل ، بكل مرادفاتها واستعاراتها وأهازيجها التي مزجت الميادين بمزيج مدهش من الإصرار والتضحية والمرح والسخرية ، لم يتوقف الشاب الإسلامي في الميدان لكي يتساءل عن زميله أو جاره في الوقفة أو الرصيف أو الخيمة أو فوق الأكتاف ، هل هو علماني أو ليبرالي أو يساري ، لم يكن هذا الأمر مطروحا أبدا ، هو زميله فقط في حملة شعب من أجل دحر البلطجة السياسية والأمنية ، جندي معه في الميدان من أجل إنقاذ مصر من هؤلاء البلطجية ، وكان هذا التوحد في الإرادة والهدف هو السبب الجوهري الذي حرم نظام الطاغية من القدرة على كسر شوكة الشعب أو فرض الإحباط عليه أو الاستفراد ببعض قواه ، وفي النهاية أجبر مبارك على التنحي ، وهذا التوحد هو الذي أنتج مسيرات بالملايين ، الملايين الحقيقية في القاهرة والاسكندرية والمحافظات المختلفة ، وكان هو السبب الذي جعل هذا التيار الشعبي السلمي الجارف يجرف معه نظام البلطجة بكل رموزه وأوتاده ، وهذا التوحد هو الذي جعل المجلس العسكري الجديد ينحني إكبارا لثورة الشعب وتضحيات أبنائه ، ويستجيب بشكل متتالي للمطالب الشعبية . ومنذ بدأت ثورة الشعب المصري تفقد نسبيا هذا التوحد ، وتلك الروح ، بدأت الانتكاسات الجزئية تحدث لمسيرة الثورة ، على قدر الفقد في وحدة الثورة وتياراتها الفاعلة ، ومنذ بدأت المليونات الميدانية تفقد شرعية تمثيلها للشعب بكل أطيافه ، وتتلون بلون تيارات بعينها ، تارة تيارات ليبرالية وتارة تيارات إسلامية ، منذ ذلك الحين وبدأت قوة دفع الثورة تتراجع وتضعف ، وفي المقابل بدأت "الفلول" تستجمع طاقاتها وتحاول الاستفادة من هذا الصدع ، وبعض هذه الفلول ما زال يعشش في مؤسسات أمنية وإعلامية ومالية ، وبدأ المجلس العسكري أيضا يكون أكثر برودا في التعامل مع المطالب الشعبية ، بل وراح في الفترة الأخيرة يتخذ من القرارات والإجراءات ما يمثل نكوصا واضحا عن أهداف الثورة ، وربما إعادة انتاج لبعض أنماط نظام مبارك ، وتجلى ذلك واضحا في إصداره قرارا بتفعيل قانون الطوارئ قبل أسبوعين فقط من انتهاء المدة التي كان من المقرر أن ينتهي فيها ، والتي التزم فيها المجلس علنا ودستوريا بأنه لن يمدها إلا باستفتاء شعبي . حتى الآن ما زالت الثورة حية ومتوهجة ، والملايين يمكن أن يحتشدوا في الميادين من جديد ، ولكن المسؤولية الأخلاقية والوطنية تستدعي من كل القوى الوطنية والإسلامية أن تسارع إلى استعادة قانون النصر في الثورة ، من أجل وقف التآكل في قوة دفعها وتأثيرها ، وأن يعود التنسيق في أي فعل جماهيري كبير بين التيارات المختلفة ، وأن تتلاقى الثورة وقواها على أهم وأخطر مطالب الثورة وأهدافها بعد إسقاط نظام الطاغية ، وهو التزام المجلس العسكري بتسليم الحكم إلى سلطة مدنية وفق برنامج زمني محدد ومعلن ، من خلال برلمان منتخب أتمنى أن تأتي قوائمه بالتوافق ، فليست هذه مرحلة كم نربح وكم نخسر من المقاعد ، وإنما هي مرحلة حسم تحول مصر إلى دولة مدنية دستورية وقطع كل خطوط الرجعة على منظومات الحكم العسكري الذي أهان مصر وشعبها وأهدر مقدراتها البشرية والمادية طوال ستين عاما ، ثم إنجاز دستور يليق بتلك الثورة ويحقق آمال جميع تياراتها وكذلك انتخاب رئيس مدني للجمهورية ، وبعد أن ننجح في إنجاز هذا التحول التاريخي ، يمكن بعد ذلك أن ندير صراعنا السياسي وفق قواعد مدنية عادلة وإنسانية ويكون من حق كل تيار وقتها البحث عن أغلبية أو أقلية أو شراكة في الحكومة والحكم . يخطئ خطأ فادحا وتاريخيا ، التيار الذي يجري حساباته الآن وفق مصالحه المباشرة والخاصة أو الأيديولوجية ، لأنه في النهاية سيخسر مصالحه المباشرة ويخسر الوطن كله معه ، وتخطئ الحركة الوطنية المصرية وقوى الثورة إذا تصورت أنها يمكن أن تستغني عن شركائها في الثورة والفعل الجماهيري وتحقق رغم ذلك أهدافها وأشواقها ، يخطئ الإسلاميون إذا تصوروا ذلك ، ويخطئ الآخرون إذا تصوروا ذلك أيضا ، إذا اجتمعوا أحيوا قدرة الثورة على النصر وجعلوها عصية على الهزيمة أو الانكسار ، ومهدوا الأرض الطيبة لتحقيق أشواقهم وفق قواعد عادلة للصراع السياسي، وإذا تفرقوا فقد كتبوا بأيديهم أول سطور الهزيمة وسجلوا أنفسهم في أسوأ صفحات العار السياسي ، النصر الحقيقي المطلوب الآن هو نصر الوطن ، وليس نصر فريقي أو حزبي أو تياري ، فإذا انتصر الوطن فسوف ننتصر جميعا ، وينتصر أولادنا وأجيالنا القادمة ، الذين نورثهم وطنا حرا وعادلا ومستنيرا ، وإذا خذلنا الوطن في هذه اللحظة التاريخية فسوف نخسر جميعا ونورث أجيالنا المقبلة عبودية جديدة لا يعلم إلا الله مداها . [email protected]