فاجأ الرئيس مبارك الشعب المصري بإصدار قرار بتأجيل الانتخابات المحلية والمقرر إجراؤها في إبريل 2006 لمدة عامين. المفاجأة شملت الجميع بما فيهم الحزب الحاكم الذي كان أسعد القوى بسبب حالة الارتباك التي تسود أوساطه والاستعدادات للمؤتمر العام القادم الذي ينتظر الناس تغييرات كبيرة خاصة بعد الفشل الذي مني به الحزب في الانتخابات البرلمانية بعد حصوله على 31% فقط من المقاعد وزيادة هذا الرصيد إلى 75% بعد ضم المستقلين الذين رفضوا قرارات عدم الترشيح فكان هذا مؤشرا على إنقسام شديد بين الذين يسيطرون على القرار السياسي ويرشحون الأسماء للرئيس وبين قواعد الحزب التي ترى نفسها مؤهلة للعمل السياسي والبرلماني وحصلوا على 44% من المقاعد مما كان يقتضي محاسبة المسئولين الحزبيين وقيادة الحزب ولكن ذلك لم يتم بل كان التضحية بشخص واحد في حجم كمال الشاذلي لإرضاء الساخطين وإلهاء المتفرجين. كانت الانتخابات المحلية فرصة لإعادة ترتيب الحزب من الداخل وإتاحة فرصة لتجديد دماء القواعد والمنافسة على أكثر من 50 ألف مقعد في النجوع والقرى والمراكز والمدن والمحافظات. قدمت الحكومة باسمها للقانون الذي صدر خلال 4 أيام فقط في عملية سلق واستعجال تعود عليها النظام منذ عقود ، ففي حين يفترض أن العملية التشريعية تقوم بها الأحزاب والقوي السياسية من خلال أعضائها في المجالس فقد فسرت الحكومة مشروع القانون بمد عمل المجالس المحلية لعامين آخرين بأنها بصدد عمل تعديلات على قانون الإدارة المحلية يعطي صلاحيات أكبر للمجالس ويكرس اللامركزية في النظام السياسي المصري. وعود النظام المصري تأتي دائما بعكس المقصود ، فها هو وعد عدم حبس الصحفيين منذ سنتين لم يتحقق ، ووعد الرئيس بإلغاء الطوارئ يهدده إصدار قانون جديد للإرهاب أقسى من قانون الطوارئ .. وهكذا : منذ وعد مجلس قيادة الثورة بإرساء ديمقراطية سليمة منذ إدانة الديمقراطية الليبرالية قبل عام 1952 ومازلنا ندرس خريطة الطريق إلى الديمقراطية ، ووعد السادات بالرخاء بعد نصر أكتوبر وحوالي 25% من شعب مصر يعيش تحت خط الفقر الآن وتآكلت الطبقة الوسطى إلى حد مخيف. السؤال هو : لماذا لم يتقدم النظام بهذا القانون الذي وعد به منذ قرابة عشرين عاما ؟!! وهل يستطيع أن يوفي في سنتين بما فشل فيه خلال عقدين. الصحف الغربية جميعا دون استثناء قدمت تفسيرا واحدا للقرار المفاجئ وهو :الخوف من الديمقراطية، الخشية من مواجهة الشعب في انتخابات جديدة ، محاولة وقف صعود الإخوان المسلمين السياسي بعد فوزهم في الانتخابات الأخيرة وكذلك بعد فوز حماس التاريخي في فلسطين، ويجدرأن نذكر هنا أن الانتخابات الفلسطينية تم تأجيلها من شهر يوليو إلى شهر يناير كي لا تؤثر على الانتخابات البرلمانية المصرية في شهري 11،12 وكان القدر يرتب العكس. الإدارة الأمريكية أدانت التأجيل على استحياء قائلة أنها ستطلب تفسيرا من الحكومة المصرية ، بينما قدم السفير الأمريكي في القاهرة تبريرا يتفق مع النظام المصري قائلا إن التأجيل يعزز التطور الديمقراطي كما نقلت عنه الصحف المصرية. الارتباك يعكس قلق وتردد الإدارة الأمريكية حيال عملية التطور الديمقراطي كلها وهو المشروع الذي يتبناه بحماس الرئيس الأمريكي بوش ولكن التطبيق على الأرض ينذر بفوز كبير للاتجاه الإسلامي السلمي الديمقراطي الذي تمثله مدرسة الإخوان المسلمين ، وهو فوز تحقق في كل الانتخابات التي تمت في المنطقة من المغرب إلى أندونسيا مرورا بباكستان واليمن والأردن ومصر والجزائر والبحرين.. إلخ. وأخيرا تسلم السلطة في فلسطين في عملية تغيير سلمي لأول مرة وفي أخطر مكان في بؤرة الأحداث ومحل الصراع التاريخي على مستقبل المنطقة والذي يدور منذ قرن كامل من الزمان في أحد أهم المشاريع الاستعمارية في التاريخ والذي يعيد للذكرى مشروع تاريخي آخر للممالك الصليبية (أو الفرنجة) في العصور الوسطى والتي شغلت العالم وقتها حوالي مائتي عام. هذا المشروع الصاعد بطرق ديمقراطية يتم مواجهته عبر عدة آليات منها إشعال بؤر التوتر والصراع العرقي والمذهبي ، ومنها شغل جموح الشباب المسلم بحروب ضيقة ومستمرة عبر العنف المتزايد الذي يتم تصعيده كل فترة باستفزازات متكررة وكأنها عملية desensitization (نزع الحساسية) ومن خلال ذلك يتم دمغ المسلمين جميعا بتهم الإرهاب والعنف وتشويه صورة الإسلام نفسه ورموزه في الذهنية الغربية بل وحشد العالم كله من روسيا إلى الصين إلى الهند ضد المسلمين ،ومنها : دعم النظم الدكتاتورية منذ ستين عاما وحتى الآن في باكستان وليبيا وتونس.. إلخ ، ومنها أخيرا : نظرية صدام الحضارات ،وكذلك إفشال المشروع نفسه حتى يتم القضاء على ما يتصوره البعض الحلم الأخير لنهضة شاملة في العالم العربي والإسلامي تقوم على "الحلم الإسلامي" بعد فشل الحلم الليبرالي ثم الحلم الثوري ثم الحلم الاشتراكي ونهاية حقبة الدولة الوطنية القومية الحديثة لكي ندخل إلى عالم جديد تسوده العولمة العسكرية والاقتصادية في عالم ما بعد الحداثة. الارتباك سبب الخوف من صعود الإسلاميين إلى السلطة ثم تمكنهم فيها وقدرتهم على تحقيق معدلات تنمية معقولة عبر مكافحة الفساد وزرع قيم الحرية والعدل والعزة والكبرياء القومي الإسلامي. القلق داخل النظام المصري أشد وأقوي لأن هندسة النظام لانتقال سلمي للسلطة مهددة بأي عملية ديمقراطية . لقد عاشت الجمهورية المصرية منذ إعلانها عام 1953 انتقالا سلسا عبر آلية محددة وهي اختيار نائب للرئيس يتولى الرئاسة فور خلو المقعد الرئاسي ونظرا لاحترام الشرعية في مصر فقد اكتسب كلا من جمال عبد الناصر والسادات ومبارك شرعية فورية رغم علو الموجه الديمقراطية في منتصف الخمسينات وعلو الموجة الاشتراكية في بداية السبعينات ورغم وجود شخصيات قوية عند اغتيال السادات. اليوم ومع غياب نائب للرئيس وزيادة الطلب الشعبي والدولي علي الديمقراطيية والإصلاح والتغير فإن هناك أزمة في انتقال السلطة. ملف التوريث يطل برأسه كلما أصابت الرئيس شائعة صحفية وكلما أطلت قضية سياسية مثل انتخابات الرئاسة ثم البرلمان . الآن ومع اعتماد آلية الانتخابات الرئاسة والتعديل الخطيئة للمادة 76 من الدستور ورفض أي إجراء يسمع بانتخابات حقيقية وليست ديكورية حيث كان أمل المهندسين للانتقال أن يكون هناك منافسون ضعفاء من قيادات الأحزاب المرخص لها فقط وهم جميعا تحت السيطرة ولا يمكن اعتبارهم منافسين في الحلبة ، وكان الأمل الوحيد هو أن يتم السماح باعتماد آلية خمسين ألف توقيع مواطن كان يمكن أن تتفق المعارضة جميعا علي منافس قوي يفتح الآمال للإصلاح والانتقال السلمي من عصر إلى عصر بطريقة سليمة وسلسلة. حاليا وبعد الانتخابات البرلمانية أصبحت هندسة الانتقال في ورطة ومأزق شديد المطلوب لترشيح منافس هو : 65 عضوا من البرلمان 25 عضوا من مجلس الشورى ، 150 توقيعا لأعضاء من مجالس 14 محافظة للمجالس الشعبية المحلية : حصل الإخوان على 88 مقعدا برلمانيا يمكن أن يزدادوا إلى 95 عندما يتم إجراء الانتخابات المؤجلة إذا حصلت المعارضة في إطار الجبهة الوطنية للتغير وفي قلبها الإخوان على نسبة معقولة في الانتخابات المحلية القادمة والتي كان يفترض أن تجري في أبريل 2006 وتم تأجيلها إلى 2008 قد تصل إلى 30 40 % فيتبقى لها انتخابات مجلس الشورى في العام القادم 2007 هنا مربط الفرس كما يقولون ستزداد حمية التغيير والإصلاح وستقوي المطالب الشعبية عندما ينفسح أمامها الأمل في انتقال سلمي يحدث ثغرة في جدار الجمهورية التي تآكلت شرعيتها عبر عقود خمس من شرعية ثورية إلى شرعية إزالة آثار العدوان إلى شرعية نصر أكتوبر الذي مضي عليه 33 عاما ونشأت أجيال جديدة ولدت بعد الحرب تشكل القوة الضاربة في أي انتخابات تصل إلى أكثر من 40 % من القوة التصويتية وتريد اختيار رئيس جديد يمثلها هي لأنها جيل الحاضر وأجيال المستقبل. ما البديل الذي يقدمه مهندسو الظل الذين يخططون للنظام ؟ هل هناك فرصة للعودة إلى الوراء والنكوص عن الحريات والديمقراطية ؟ هل يفكرون في تغيير جديدة للمادة 76 لقطع الطريق نهائيا علي أي انتخابات رئاسة حقيقية ؟ وإذن ما هو مستقل مصر إزاء ذلك التفكير الظلامي ؟ . ملف آخر فتحة قانون التأجيل وهو ملف الفساد . هناك تحالف واضح لا تخطئه العين بين الاستبداد وبين الفساد ، أو قل بين السلطة وبين الثروة أو قل بين السياسة ومجال الأعمال هذا التحالف ظهر مؤخرا في عملية الحزب الوطني وبناء لجنة السياسات وأمانة السياسات التي يقودها السيد جمال مبارك الذي تم تصعيده مؤخرا لموقع أمين مساعد الحزب بجانب مواقعه الأخرى في لجنة السياسات . السيد جمال مبارك جاء أصلا من مربع رجال الأعمال لذلك كان طبيعيا أن يدعم لجنته الجديدة " السياسات " بنخبة من رجال الأعمال بجانب أساتذة الجامعات الباحثين عن دور المتطلعين إلى موقع . قمة الهرم هنا تعبر عن قاعدته العريضة وهي أعضاء المجالس الشعبية المحلية : هؤلاء هم حرس الحزب والنظام وهم منتفعون بمناخ الفساد العريض الذي ينخر كالسوس في الجهاز الإداري للدولة حتى قال رئيس ديوان الرئاسة د. زكريا عزمي في مضابط مجلس الشعب : إن الفساد وصل إلى الراكب في الإدارة المحلية والمجالس المحلية. هنا يأتي القرار بالتأجيل مكافأة واضحة للمفسدين والفاسدين المتهمين بتعطيل مصالح الشعب وهذا ويا للعجب يأتي ضد مصلحة الحزب الوطني الحقيقة التي تتمثل في تطهير صفوفه من جحافل المفسدين والفاسدين. المشكلة وحلولها واضحة وهي تتمثل الآتي : عدم وجود إرادة سياسية حازمة نحو الإصلاح السياسي والانتقال إلى الديمقراطية مما يقتضي إلغاء حالة الطوارئ فورا دون حاجة إلى قانون جديد للإرهاب بعد ذلك الذي تم إصداره عام 1992م وإلغاء قانون الأحزاب والسماح لكل القوي السياسية بتشكيل أحزابها السياسية وعدم التدخل في شئون تلك الأحزاب والسماح بحريات للمجتمع الأهلي : نقابات عمالية ومهنية واتحادات طلابية وجمعيات أهلية حقوقية واجتماعية. إصدار قانون عاجل للإدارة المحلية يسمح بمزيد من اللامركزية ويعطي المجالس الشعبية الحق في امتلاك ميزانيات حقيقية والإشراف الفعلي على الإدارة المحلية التنفيذية وعدم التلكؤ في ذلك. قبول الإدارة الشعبية واحترامها ولو جاءت على عكس الإرادة الرئاسية أو ضد رغبات الحزب الوطني. التسليم بالانتقال السلمي للسلطة كمخرج للوطن من أزماته مع ضمانات جادة وحقيقية لحياة ديمقراطية سليمة تتضمن دوران السلطة عبر الانتخابات الحرة النزيهة مع احترام السلطة القضائية والفصل التام بين السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية واحترام رقابة بعضها على البعض. هذا إذا صدقت النوايا وخلفت النيات.