توابع حادثة الهجوم على مجلة "شارلي ابدو" الفرنسية الساخرة والذي انتهى بمقتل قرابة عشرة من العاملين بها والصحفيين إضافة إلى شرطي ما زالت مستمرة ، بل وتتسع يوميا ، ويبدو أنها ستجرف افكارا كثيرة في هذا الجدل ، وتجتاح مناطق كانت جهات عديدة حريصة على أن لا تمسها أو تقترب منها ، تتعلق بطبيعة العلاقة بين أوربا والعالم الإسلامي الآن ، فقد سخر الممثل الكوميدي الفرنسي "ديودوني مبالا" من تظاهرة باريس التي أدانت الإرهاب وعلق عليها بتغريدة على شبكة التواصل الاجتماعي على الانترنت فقامت الشرطة الفرنسية باعتقاله بتهمة التحريض على الإرهاب ، رغم أن ما كتبه والتغريدة منشورة مجرد سخرية لا صلة لها بأي دعم أو موافقة للإرهاب ، ويأتي اعتقاله لسخريته من مشهد سياسي لكي يطرح التساؤل مجددا عن معايير "الحرية" المزدوجة في باريس والمكاييل غير السوية ، فأن تسخر من مقدسات المسلمين ونبيهم رغم حساسيتها الشديدة فهو حرية نحميها ، بينما السخرية من سلوك سياسي يتم قمعه وإدانته واعتقال قائله رغم كونه شخصية عامة وممثلا مشهورا ، أيضا صدرت تصريحات عدائية من الملياردير اليهودي "روبرت ميردوخ" حملت المسلمين المسؤولية واتهمتهم بالتقصير في محاربة الإرهاب ، ثم عاد واعتذر عن ما فعله في تغريدات جديدة بعد أن واجهته أصوات غاضبة حتى في الغرب ذاته ، ووبخته الروائية الشهيرة "جي كاي رولينج" مؤلفة سلسلة "هاري بوتر" وقالت أنه إذا كان المسلمون والإسلام يتحملون ما حدث في "شارلي ابدو" فإن المسيحية تتحمل مسؤولية محاكم التفتيش ، وقال "ميرودوخ" في بيان اعتذاره أنه لم يقصد ما فهم من كلامه ، أيضا طرح الفيلسوف الفرنسي "ميشال اونفري" وجهة نظر مغايرة تماما للسائد في الإعلام الفرنسي ، وقال لقناة فرنسية فضائية أننا يعني فرنسا منافقون ، وأننا نذهب للمسلمين لقتلهم واستضعافهم في بلادهم ثم نقول لماذا يهاجموننا في باريس ، وتساءل : لماذا تذهب فرنسا بجيشها إلى ليبيا والنيجر ومالي وغيرها من الدول الإسلامية "الضعيفة" بينما تعجز عن فعل ذلك أيا كان الموقف في الصين أو الهند أو روسيا ، كما أعلنت مخرجة فرنسية معروفة إشهار إسلامها بعد الجدل الذي صاحب الهجوم . الرئيس الفرنسي "أولاند" لم يتوقف عن التصريحات والكلام من ساعتها ، وزار معهد العالم العربي في باريس ليعلن من هناك أن فرنسا والغرب أخطأوا عندما تركوا مأساة سوريا تستفحل دون تدخل مما ساعد على اتساع الإرهاب ، وأن الجميع يدفع الثمن حاليا لهذا الموقف الخاطئ على حد تعبيره كما قال أن فرنسا في حاجة إلى تعزيز صداقتها للشعوب الإسلامية ، وهي إشارة جديدة توحي بإعادة النظر في الدعم الذي تقدمه فرنسا لنظم القمع في العالم الإسلامي ، وأن هذا الموقف جعلها تخسر الشعوب . "شارلي ابدو" طبعت عدة ملايين من عددها الجديد ، ويحمل سخرية جديدة من الإسلام ، وهو الأمر الذي أفقدها تعاطفا واسعا سبق لها الحصول عليه في العالم الإسلامي وفي الغرب ذاته ، وهناك إدانات متلاحقة الآن لما فعلته ، كما فتح الجدل واسعا في الدوائر الإعلامية والثقافية الغربية حول حدود حرية الرأي والتعبير إذا مست مشاعر مقدسة لدى أصحاب الديانات المختلفة وأهانتها ، وهناك رأي عام جديد يتشكل يطالب بإعادة النظر في ما استقر في أوربا طوال العقود الماضية في هذه المسألة تحديدا ، خاصة وأن تكاليفها أصبحت شديدة الخطورة ويدفع ثمنها كثيرون من أعمارهم ودمائهم ، كما أنها تفجر المجتمعات الأوربية من الداخل وتثير موجة خطيرة من الارتباك والقطيعة والعنف أيضا ، حيث أعلنت السلطات الفرنسية أن مئات الاعتداءات على مساجد ومنشآت إسلامية حدثت خلال الأيام الماضية فقط ، ومن الممكن أن يتسبب ذلك في ردات فعل مقابلة ، وهو أمر يغذي التطرف والانقسام المجتمعي . جريمة "شارلي ابدو" في حق المسلمين ، وجريمة بعض المتطرفين بالهجوم الدامي عليها ، تحولت إلى ما يشبه حجرا كبيرا ألقي في بركة راكدة فأثار دوامات من الصخب والجدل والصياح والغضب والسخرية ، والمؤكد أن الحالة الثقافية والإعلامية الغربية بعدها لن تكون أبدا كما كانت قبلها .