بآلات موسيقية مصنوعة من جلد الماعز والخشب والصاج، قدمت فرقة "نوبانور" المصرية ليلة نوبية فنية خالصة احتضنها مسرح الضمة بمنطقة عابدين بوسط القاهرة. ورغم موجة الصقيع التي تضرب البلاد قدمت الفرقة حفلها في موعده وتفاعل معها الجمهور الذي ملأ جنبات المسرح، مساء الخميس الماضي، وكأنه قرر الاحتماء من برودة الطقس بدفء ملامح أهل النوبة وعظمة ثقافتهم. الأغاني التراثية التي قدمتها الفرقة كانت باللغة النوبية، التي لا يتقنها الحضور من أبناء العاصمة، لكن تفاعل معها الجمهور بشدة وبدأوا في محاكاة طريقة نطق الألفاظ وإن لم يتضح لهم معناها، كما انسجموا مع الحركات الإيقاعية الراقصة للفرقة بمرونة شديدة. والنوبيون أهل النوبة، قبائل تسكن منطقة تمتد على ضفتي نهر النيل أقصى شمال السودان وأقصى جنوب مصر، يتحدثون اللغة النوبية والتي هي لغة منطوقة غير مكتوبة. وفي تصريحات للأناضول على هامش الحفل، لفت أسامة بكري، مدير الفرقة، إلى أن "نوبانور" تعد من أقدم الفرق الفنية التي تجسد في أعمالها التراث النوبي. وأوضح بكري للأناضول أن "الفرقة تأسست عام 1968 ومارست نشاطها حتى أواخر الثمانينيات قبل أن تتجمد بعد وفاة مؤسسها الفنان سيد جمال، إلا أنني توليت إعادة إحيائها عام 1990وأصبح قوامها 12 عضوا ما بين مطربا وعازفا وراقصا يأخذون على عاتقهم مهمة الحفاظ على التراث النوبي والتعريف باللغة النوبية". إلا أن أبرز ما يميز الثقافة النوبية عن غيرها من الثقافات، وفقا للمصدر ذاته، كونها "تجسد بشكل فني أركان الحياة الاجتماعية لأهل النوبة الذين صنعوا من الفرح والحزن فنا خالصا فتجد لديهم أغنيات تحتفل بأفراح الزفاف وأعياد الميلاد وموسم الحصاد كما أن لديهم أغنيات لرثاء موتاهم". "ولازالت الفرقة حتى اليوم تشدو بأغنية تتحدث عن السيدة مريم العذراء كانت تُغنى في عهد المسيحية قبل دخول الإسلام إلى أرض النوبة، وذلك بجانب أغنياتهم عن الإسلام والرسول محمد خاتم الأنبياء"، يضيف بكري. ولفت مدير الفرقة إلى أن "التهجير القصري الذى تعرض له أهل النوبة ليغادروا موطنهم الأصلي على ضفاف النيل انعكس على فنهم وتراثهم في صورة أغنيات تحكي لوعة الحنين إلى الوطن". وحدث تهجير لأهالي النوبة جراء بناء خزان أسوان ومن بعده السد العالي، خلال النصف الأول من القرن العشرين وحتى ستينيات القرن الماضي، من النوبة القديمة إلى كوم أمبو بأسوان، وهو ما يأسف عليه النوبيون كثيرا. كما لفت بكري إلى أن "طبيعة النوبة الخلابة وضعت لمسات ساحرة على الثقافة النوبية ميزتها عما سواها من ثقافات؛ إذ تدخلت هذه الطبيعة في تفاصيل الفن النوبي بل وحتى في صناعة الآلات الموسيقية التي يقوم عليها الغناء النوبي". "فمن جلد الماعز المفرود على الخشب صنع النوبي القديم آلة تعرف لديهم بال "تار" أي الدُف، ومن الصاج والحديد المغلف بجلد الماعز أيضا صنع آلة "الطنبورة" وكلتاهما آلتان موسيقيتان تميز الغناء النوبي عما سواه من ألوان غنائية مختلفة في شتى بقاع العالم"، يضيف بكري. وفيما يتعلق بالرقصات النوبية الاستعراضية، قال مؤسس الفرقة إن رقصة "أراجيت" هي أشهرها على الإطلاق. ورقصة "أراجيت" هي تلك الرقصة التي تؤدى في الأفراح النوبية من خلال تكوين حلقات بشرية تحيط بالعروس والعريس من كافة الاتجاهات وتتمايل على نغمات إيقاعية محددة بشكل جماعي، فضلا عن رقصة "فري" التي اكتسبت تسميتها على غرار سمك ال "فري" وذلك لأن الراقص النوبي فيه يؤدي حركات تحاكي تلك التي يؤديها هذا النوع من السمك وهو يسبح في البحر، بحسب المصدر. والتقط أطراف الحديث منه أحمد إسماعيل، مطرب الفرقة، والذي لفت إلى أنه احترف الغناء باللغة النوبية منذ عام 2007. ومضى قائلا في حديثه للأناضول: "رغم أن اللغة النوبية غير معروفة بالنسبة لباقي الشعب المصري بل وحتى للشعوب الأجنبية التي قدمنا لها حفلاتنا في الدنمارك وإنجلترا إلا أن تفاعل الجمهور معنا لا يتوقف منذ الدقائق الأولى للعرض وحتى نهايته". ويضيف "ذلك لأن الموسيقى لغة جامعة لكل البشر ومعها يذوب أي عائق لغوي آخر، لدرجة أن بعض الحضور بعدما يستمع للأغنيات النوبية وتجذبه موسيقاها يطلب ترجمة معانيها، وهو ما نفعله بسرور بالغ". وأخيرا لفت المطرب النوبي إلى أن "العزف على العود هو أحد أبرز السمات الفنية للثقافة النوبية؛ وذلك لأن مخترع العود فنان نوبي وليس عراقيا يدعى "زرياب" لكنه هاجر من بلاد النوبة إلى العراق فاصطلح تاريخيا بشكل خاطئ على نسب اختراع العود إلى زرياب العراقي الذي اخترعه كآلة عزف خماسية أضيف لها الوتر السادس لاحقا".