لن يطول بنا الوقت حتى يدرك إخواننا الأقباط أنهم مصريون خالصون يندرج تعدادهم ضمن تعداد كل الشعب المصرى دون أى تعداد خاص بهم.. وأنا كنت ولازلت أرى دائمًا أن تقديم الحالة القبطية فى تعداد إهانة لنا جمعًا كمصريين.. وما نشرته إحدى الجرائد اليومية كمانشيت رئيسى لها عن تعداد الأقباط نقلاً عن غبطة البابا تواضروس الثانى يشير إلى أن القيادة الكنسية حريصة على أن يظل الأقباط حالة عددية فى الصورة الوطنية العامة.. ولعل هذا من أثار مدرسة غبطة البابا شنودة الثالث، المدرسة التى لازالت تدير الكنيسة بنفس النهج القديم. كانت القيادة الكنسية السابقة تريد أن يكون المسيحيون تكتلاً عدديًا يبدأ وينتهى على أبواب الكاتدرائية.. وهو ما يجعل الكنيسة المتحدث الوحيد بكل ما يتصل بهم من شئون ومصالح دينية ودنيوية.. وهو الأمر الذى يشق الصف الوطنى ويحرم الوطن من صلابة وحدته التى تتمثل فى سيادة مفهوم(المواطنة) على غيره من المفاهيم السلبية التى قد تعكر صفو الجماعة الوطنية. أنا أفهم ما كان من حرص غبطة البابا شنودة الراحل على أن يكون الأقباط حالة كنسية محضة يكون هو المتحدث الوحيد بكل ما يتعلق بها.. فالرجل كان لا يرى مثل نفسه قيادة وزعامة وكاريزما وأذكر أن احد الأصدقاء الأقباط قال لى إن البابا شنودة كان يرى نفسه أكبر من كرسى (مرقص الرسول).. وطبيعة الإنسان هو الإنسان نفسه كما يقولون وأن الزمان والمكان يتطلبانه وينتظران وجوده. كانت تطوق نفسه دائمًا إلى زعامة كبرى تماثل الزعامات القبطية التى شهدتها الحياة السياسية فى مصر الحديثة من القرن التاسع عشر مثل المعلم إبراهيم الجوهرى وأخيه المعلم جرجس وفلتيوس وملطى وويصا واصف وتوفيق أندراوس وفخرى عبد النور وبطرس غالي.. وطبعًا مكرم عبيد.. وقد تحقق له مراده وربما أكثر لجمعه بين السلطة الروحية والسلطة الزمنية ! وقد شهد المجلس الملى فى عهد غبطته انحسارًا تامًا وخضع لسلطته تمامًا.. وهنا نتذكر قول السيد المسيح لتلاميذه حين أرسلهم يكرزون (لا يكون للواحد ثوبان).. والمعنى واضح. هذا النهج للأسف الشديد عمق عزلة الأقباط واندماجهم فى الحياة العامة.. وقلل إلى حد كبير حجمهم حضورهم فى الجماعة الوطنية كمواطنين مصريين يتوزعون فى كيانات المجتمع كل حسب اختياره وميوله بين الأحزاب أو الحركات السياسية.. وأعاق تفاعلهم مع القوى السياسية والثقافية والاجتماعية الأخرى.. بعدم مشاركتهم إلا فى الأنشطة التى تنظمها الكنيسة. وأتصور أن الحياة الاجتماعية والسياسية خسرت كثيرًا من حالة توحيد صوت الحالة القبطية فى المجال السياسى داخل الكنيسة.. وإذا أضفنا السبب الذى يتعلق بغبطة البابا شنودة شخصيا.. بغرض زيادة التأثير القبطى فى المناقشات السياسية إلى أقصى حد ممكن. البعض رأى فى ذلك خطرًا قد يفضى إلى ما يمكن أن تعرّض فيه قرارات الكنيسة حياة أى قبطى وممتلكاته إلى الخطر حتى لو لم يشارك فعليًا فى اتخاذ خيار سياسي. فى فترات الخصب السياسى لم يكن هناك ثمة حاجة للأقباط.. إلى أن يتحدثوا بصوت واحد.. كانت الكنيسة تتولى الشأن الروحى وكان المجلس المللى بمن فيه من الأعيان والنخب يتولى سياسة أى أمر يحتاج إلى سياسة.. وستظل التجربة التاريخية فى الفترة من 1919-1952 تؤكد كل يوم أنه من المفيد والمجدى للأقباط _وللوطن كله_ أن يشاركوا فى الجماعات والحركات المختلفة وفقا لميولهم السياسية. فى عام 1855م فى فترة حكم الخديوى سعيد أسقطت الجزية عن الأقباط وفى العام التالى له صدر قرار من الباب العالي(الخلافة العثمانية) بدعوة الأقباط إلى التجنيد فى الجيش المصرى وفى أول برلمان شهدته مصر انتخب عضوان من مجموع 75 عضوًا يشكلون المجلس (1866-1869م) ومن خلال تلك المعالجة الهادئة للانتقال إلى مفهوم(الدولة الوطنية) باتجاه المساواة التامة بين المواطنين فى الحقوق والواجبات. منحوا أدوارهم الطبيعية، وتقلدوا المناصب المناسبة والدرجات العليا ودخلوا سلك القضاء والجيش ودعم تعليمهم الدينى وتولى منهم اثنان رئاسة الوزراء(بطرس باشا غالى ويوسف باشا وهبة) ونصب منهم وزراء وتمتعت النخب القبطية بحريتها فى الاقتصاد وفرص التعليم بل وكانوا جزءًا مهمًا من البرجوازية الاجتماعية والسياسية الصاعدة والإقطاعيين الكبار والمهنيين المتنوعين. فى كتابه المهم(هل من مسألة قبطية فى مصر) أشار المفكر القومى الدكتور عزمى بشارة إلى عدة حقائق: منها أن الصراع وجميع عناصر الفتنة التى تنشأ من حين إلى آخر هى أهلية أساسًا.. حيث يتحول أى نزاع فردى إلى خلاف وصراع جمعى كما يدل على ذلك من أحداث عديدة. وأن الفتنة الطائفية هى أقصر الطرق( للسيطرة الأمنية) وهذا ما استخدمته قُوى الثورة المضادة وقيادات أمن الدولة.. ومازال حادث تفجير كنيسة القديسين حاضرًا فى الذاكرة الوطنية الحديثة.. وأستطيع أن أضيف أن كل حرائق الكنائس فى الفترة الماضية هى عمل أمنى خالص.. سواء من الأجهزة مباشرة أو من (صفوة الحكم) فى النظام السابق.. ليس فى وارد أى تيار إسلامى لا حركيًا ولا فكريًا الاقتراب بأذى من الكنائس أو من المسيحيين.. وحتى ما يحدث فى العراق الآن لا علاقة له بنصوص الدين ولا بالتاريخ.. وأكبر دليل على ذلك هو استمرار الكنائس والمسيحيين بيننا إلى اليوم عبر 1500 سنة من العيش المشترك. أشار أيضًا _ د.عزمى _ فى كتابه إلى دور الإعلام القبطى والقنوات الفضائية المسيحية فى إذكاء الغضب المسيحى وهذا ما لم نشهده سابقًا. وقد ساعد ذلك الإعلام فى دفع الآلاف من الأقباط إلى المشاركة فى التظاهرات والاحتجاجات التى شهدتها الكاتدرائية.. مع أن السيد المسيح قال (ما جئت لأهلك أنفس الناس بل لأخلصهم). أشار أيضا إلى الوضع الاقتصادى للأقباط فى مصر وهو وضع شديد التميز.. فلم يقتصر دورهم على مهنة معينة أو طبقة معينة، أو نخبة بذاتها، بل تجدهم لا يختلفون شيئًا عن الأنساق الاجتماعية للمسيحيين العرب الذين عرفتهم مجتمعاتنا العربية فى كل من بلاد الشام والعراق ذلك أن ثمة طبقيةً من أعيان انتقلت إلى طبقة متوسطة من الموظّفين ورجال الأعمال والأساتذة وأصحاب المِهن العليا مرورًا بأصحاب المهن والتجار والمقاولين، إضافة إلى المزارعين والصناع والفنانين لا يوجد فارق جوهرى فى التوزيع الطبقى للأقباط عن بقية المصريين. فالأقباطُ مندمجون فى الطبقات الاجتماعية وفى الفئات السكانية فى مصر كلها.. وقال أيضًا إن الأقباط يمتلكون ربع إجمالى الثروة القومية ذلك أن نسَبًا عاليًا من وسائل النّقل والصناعة والبنوك والأراضى الزراعية ملك لهم ويكفى أن ثلاثة منهم أُدرجت أسماؤهم فى قائمة أغنى أثرياء العالم. وأضاف: الأقباط مواطنون أصليون لهم ارتباطهم العضوى مع مصر وترابها ونيلها.. مدنها وحقولها.. بحرها وصحرائها.. دلتاها وصعيدها... ومن هنا فإن مفتاح التعامل مع هذا الملف هو المواطنة المتساوية. والديمقراطية هى الإطار الملائم لمثل هذه المقاربة.. دعونا نترك للتاريخ موقف الكنيسة من التجربة الديمقراطية الأولى فى مصر بانتخاب الرئيس محمد مرسي.. لكن الحاصل أن دعم الكنيسة للمسار السياسى بعد التدخل الذى حدث لصالح ال 49% التى لم تكن تريد الرئيس مرسي... ولو كان قد ترك سنة أخرى أو سنتين أو حتى فترته كلها _حفاظًا على التجربة الديمقراطية لا حفاظًا على النظام القائم.. التجربة التى يمثل الصوت الانتخابى أبسط أشكالها وأدواتها _ لما كان قد أحدث فى الوطن من خراب وضياع وتدمير.. ذرة واحدة مما أحدثه المرحوم جمال فى 1967م أو المرحوم أنور فى كامب ديفيد أو الرئيس السابق عبر ثلاثين عامًا متواصلة من الخراب المحض الخالص المصفى من أى شائبة (إصلاح )..!! موقف الكنيسة مما حدث لاشك منحها مكانة متميزة فى النظام الجديد ما دفع الكنيسة إلى مسار غبطة البابا شنودة القديم. باعتبارها الممثل الوحيد للحالة القبطية. على أنى أتوقع من البابا تاوضروس الثانى أن يبتعد عن النهج القائم على قنوات الاتصال الجانبية بين الكنيسة والسلطة فى تسوية الشئون القبطية. فغير أن ذلك سيحرم الأقباط من حقوقهم الطبيعية باعتبارهم مواطنين مصريين.. سنجد أن دولة القانون مهددة ومجروحة.. ذلك أن الكنيسة والنظام حاولا فى كثير من الأحيان التوصل إلى تسويات خارج إطار القانون.. هذا النوع من التفاوض يجب أن نوقفه تمامًا.. ونطالب بتطبيق القانون على جميع المشاكل المتعلقة بالمسيحيين كونهم مواطنين مصريين تمام المواطنة. وإذا ما وضعت الحكومة مبادئ المواطنة وسيادة القانون موضع التنفيذ بصورة كاملة.. احترامًا لهذا الشعب الطيب فستتاح الفرصة للأقباط كمواطنين لا ك (حالة عددية) المطالبة بحقوقهم الدينية والسياسية باعتبارهم مواطنين مصريين بدلاً من انتظار أن تتفاوض الكنيسة مع النظام السياسى بالنيابة عنهم. لعل الوقت مناسب لأن نطلب من البابا تواضروس الثانى أن يعيد النظر فى دور الكنيسة فى المجال العام وأن تتحول من الاعتماد على الدولة إلى الاعتماد على المجتمع المدني... وأن تكون مؤسسة وطنية وليست جزءًا من النظام السياسى.. لن يحصل الأقباط على حقوقهم الاجتماعية والسياسية الكاملة جنبًا إلى جنب مع المصريين كافة، إلا عبر النضال من أجل الحرية والكرامة ودولة الحق والمواطنة الكاملة.. لذلك يجب أن نتوقف عن تكرار القول بأن الأقباط لا يقلوا عن كذا أو يزيدوا عن كذا.. الأقباط مواطنون مصريون وكفى..