العدل الذى ينتظره المصريون بعد طول غياب ليس التشفى برؤية رجل مسن فى قفص الاتهام، فهذا ليس من شيم المصريين المتسامحين. ليس التشفى برؤية رئيس يهان فى محكمة، فليست المحاكم مكان للإهانة إطلاقاً، بل هى محل العدل وإظهار الحقائق. ليس الانتقام ممن أذل ملايين المصريين، فى صحتهم وتعليمهم وعملهم. ليس الانتقام ممن نام وترك أكثر من ألف يفرقون فى عبارة الموت. ليس الانتقام ممن اعتقل وظلم عشرات الآلاف من الإخوان والإسلاميين وأبرياء كثيرين. ليس الانتقام ممن عاند وعاند وعاند كل اقتراحات الإصلاح. محاكمة مبارك ورؤيته فى قفص الاتهام يجيب على سؤال القاضى المستشار "أحمد رفعت" كمواطن بقوله : "أفندم. موجود، كل هذه الاتهامات أنكرها تماماً" . هذه الكلمة "أفندم" نزلت برداً وسلاماً على قلوب معظم المصريين أو قل كلهم، حتى هؤلاء الذين قد تكون طفرت دمعة من عيونهم حزناً أو أسفاً على مصير لم يكونوا يتمنونه لرئيس سابق أو رجل مسن أو إنسان مريض أو قائد عسكرى حارب من أجل مصر حروبها جميعاً. قد يرى البعض فى ذلك المشهد التاريخى إهانة لمصر، أو إهانة لموقع الرئاسة أو تجريح للرئيس، هذا حقهم فى إبداء رأيهم، ولكننا نريد منهم أن يمدوا البصر أبعد من ذلك ليروا - وهذا من حقنا عليهم - الدلالات الأخرى التى قد تكون أهم وأخطر وراء ذلك المشهد التاريخى العظيم . ألم يروا فى ذلك إرادة الله تعالى، الملك الحق ا لديان الذى يمهل ولا يهمل القائل فى محكم التنزيل: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ ۖ بِيَدِكَ الْخَيْرُ ۖ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴿26﴾ } [آل عمران] ألم يدركوا أن الله لا يظلم الناس شيئاً ولكن الناس أنفسهم يظلمون، وأن الله أعطى مبارك فرصاً عديدة للإصلاح والعدل والرجوع إلى الحق، وأن الشعب أحاط مبارك عند توليه، وفى فترات طويلة بالحب والحنان والتأييد والعرفان، فلم يتلق منه إلا أقل القليل، فى الخدمات والمرافق، فى المساواة والعدالة، فى الصحة والتعليم، فى الحريات وحقوق الإنسان. ألم يروا فى ذلك المشهد ولادة مصر جديدة .. حرّة، مستقلة، ديمقراطية .. دولة تقيم الحق والقانون ، قضاؤها مستقل، المتهم له حق الدفاع كاملاً، المحاكمة عادلة لا تخضع لتأثير الرأى العام. مصر التى تحررت إرادتها بصورة كبيرة ، فلم يخضع : جيشها ولا شعبها، ولا قضاؤها لأى ضغوط تريد منع محاكمة مبارك. مصر التى تحاكم رئيسها السابق وفق القواعد القانونية المستقرة، وفق القانون العادى لا الاستثنائى، أمام القاضى الطبيعى، بحضور المحامين الدهاة أمام الرأى العام كله الذى يراقب سير الجلسة الأولى للمحاكمة. مصر التى تسعى لتتبوأ مكانتها العالية السامقة الرفيعة بين دول العالم كله وليس دول المنطقة فقط، بإرساء القيم العليا والقواعد المستقرة للدولة الحديثة التى لا تضع أحداً فوق القانون أو المساءلة والمحاسبة أو الدستور. مصر التى لا تبيع إرادتها بثمن بخس ، إرادة جيشها مرتبطة بإرادة شعبها، وإرادة الشعب هى من إرادة الله تعالى الذى نفخ فيه من روحه وأمدّه من قوته وأعزّه بعزته وأغناه من فضله العظيم. مصر التى تقول للعالم كله: هأنذا أبنى قواعد المجد وحدى، لا أخضع لاعتبارات تهدم أسس العدالة، ولا أرضى بغير إقامة العدل الذى يقيم أسس الملك السليم، ولا أبيع ضميرى ولا بالملايين. ألم يدركوا هم يذرفون بعض الدمعات أن الضمان الحقيقى لمستقبل مصر التى ضحت بمئات الشهداء وآلاف المصابين هو فى إرساد قواعد الحق والعدل والقانون؟ أليس ذلك هو الهدف النبيل الذى هتف به ملايين المصريين فى ميادين التحرير، وأيدّهم ملايين أخرى بالدعاء والتضرع إلى الله تعالى، فليس هناك استقرار للنفوس ولا للأحوال الاجتماعية إلا بإقامة العدل وتنفيذ القانون على الجميع . لا يمكن أن ننسى قول الرسول العظيم صلى الله عليه وسلم عن الأقوام السابقة عندما توسط أسامه بن زيد رضى الله عنه فى المرأة المخزمية الشريفة التى سرقت وأراد قومها أن يجنبوها العقوبة الغليظة فقال قولته العظيمة الشريفة الى ذهبت مثلاً فى الحكم والعدل: (( إنما أهلك من كان قبلكم إنهم إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد .. وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها)) صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف يضمن المستثمرون ورجال الأعمال الصادقين من مصريين وعرب وأجانب على أموالهم واستثماراتهم إذا تصورا أن الأوضاع كما هى لم تتغير؟ وأن الرشوة والمحسوبية وشراء الذمم والتدخل فى أعمال القضاء وعدم احترام الأحكام والتهرب من تنفيذ العقوبات سيستمر كما هو ؟ إن الضمان الحقيقى لتنمية جادة واقتصاد مزدهر هو إرساء قواعد العدالة والعدل وأحكام القانون. وهذا المشهد العظيم يلخص لنا محاضرات وندوات عديدة، ويعفينا من أحاديث طويلة، ويوفر على مصر ملايين عديدة للترويج لمصر الجديدة، مصر الحق والقانون، مصر الأمن والاستقرار، مصر الديمقراطية والعدل والعدالة. إن الدرس الأكبر الذى علينا أن نتأمله هو: كيف يمكن أن نعفى الرئيس القادم من ذلك المشهد الرهيب؟ كيف نجنب مشاعر المصريين الاهتزازات الشديدة؟ كيف نؤمن للرئيس القادم الوقار والاحترام ونجنبه الإهانة. الجواب باختصار هو: الديمقراطية والشورى والمحاسبة والمساءلة السياسية فى برلمان حقيقى يخضع له الجميع وفق إجراءات سياسية واضحة وشفافية فى إطار دستورى جديد. الجواب هو أن يتم تقليص صلاحيات الرئيس القادم بحيث يكون هناك توازناً بين السلطات الثلاث فى الدولة المصرية: التنفيذية والتشريعية والقضائية. الحوار الذى بدأ عن الدستور يجب أن يتعمق حول القضايا الجوهرية لأى نظام ديمقراطى، وأن تتوقف النخبة عن الحرث فى الماء والجدل الذى لا ينتهى حول هوامش الدستور. إذا كان لدينا رئيس يشعر أنه محاسب ومراقب رغم إنه منتخب من الشعب، وأن البرلمان يستطيع أن يوقفه وأن يعطل قراراته وأن يكشف عن تصرفاته ، فإنه لن يتحول إلى فرعون جديد يقول ما أريكم إلا ما أرى، وما علمت لكم من إله غيرى ، لا يُسأل عما يفعل ، كما كان الرؤساء الثلاثة السابقين. إذا أصبح لدينا برلمان يناقش ويدقق ويراقب ويحاسب، وليس مجرد أدوات للنظام أو هتيفة للرئيس أو أغلبية ميكانيكية توافق على كل أحلام الرئيس فإننا سنجنب الشعب أية اضطرابات عاطفية أو أى هزّات سياسية تجاه الرئاسة والرئيس. الخطايا التى يحاسب عليها مبارك وأولاده وصديقه، والعادلى وأركانه ووزرائه يمكن تقسيمها إلى جزئين: الأول: ما يتعلق بالثورة وقتل الثوار المتظاهرين. الثانى: الجرائم الجنائية الخاصة بالتربح واتفاقية تصدير الغاز وغيرها. وعند التأمل نجل أن الأولى سياسية تسبب فيها الانسداد السياسى الذى نشأ عن تزوير الانتخابات وإهانة البرلمان وغياب الديمقراطية. والثانية كانت نتيجة الأولى، فلو كان هناك إحساس بالمسئولية والرقابة السياسية والقضاء المستقل لما تجرأ مسئول كبير على التصرف بمخالفة للدستور والقانون فى ارتكاب جرائم جنائية. اليوم علينا أن نترك المحاكمة لعملها وفق القواعد القانونية وقواعد العدالة ، وأن ننظر لمستقبل مصر كيف نبنيه؟ وكيف نصنع التاريخ القادم ؟ اليوم علينا أن ندرك أن المحاكمة السياسية آتية لا ريب فيها، ولكنها لن تبدأ إلا بعد الانتخابات وقيام البرلمان الجديد بدوره، سواء بتشكيل لجنة لتقصى الحقائق حول الثورة المصرية وتسجيل وقائعها كلها، أو بإصدار قانون جديد لمحاكمة الرئيس وقانون آخر لمحاكمة الوزراء. على القوى السياسية والأحزاب أن تنظر باهتمام إلى البرلمان القادم بغرفتيه مجلس الشعب والشورى وإلى الأدوار الخطيرة التى سيقوم بها وأن تتدارك بسرعة غيابها عن الشعب أو تأخرها فى إعداد مرشيحها أو عدم إعداد الملفات الهامة لهذا البرلمان. غياب بعض الرموز كزكريا عزمى أو صفوت الشريف عن المحكمة لا يعنى إعفائهم من المسئولية ودورهم قادم فى موقعة الجمل وغيرها. مصر تولد من جديد: مصر الحرة المستقلة الديمقراطية دولة القانون والحق والعدل الذى غاب طويلاً.