الظن أن كلنا يعرف حديث بدء الوحي المشهور، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم رجع إلى بيته يرجف فؤاده، وأن زوجه الحنون أم المؤمنين خديجة أخذت تهدئ من روعه بقولها: (والله لا يخزيك الله أبدا، إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِم وَتَحْمِلُ الْكَلَّ ، وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ ، وَتَقْرِى الضَّيْفَ ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ)، فاستدلت رضي الله عنها –وسبحان من فقهها قبل أن يبعث إلى قومها نبيا- على أن الله لن يخزيه، بكونه يبذل جهده ووقته وماله في السعي في مصالح الناس.. إن كان هذا الحديث المشهور يصف لنا جانبا مشرقا من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم في ريعان شبابه، فإن هناك حديثا، هو أقل منه شهرة، يصف لنا الحال التي آل إليها جسد النبي صلى الله عليه وسلم من جراء هذا السعي الدؤوب في خدمة الخلق ونصرة المظلوم وإيصال الحقوق لمستحقيها، وهو حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، الذي رواه الإمام مسلم في صحيحه بسنده عن عبد الله بن شقيق أنه سألها: (هل كان النبي -صلى الله عليه وسلم-يصلي وهو قاعد؟) قالت: (نعم، بعدما حطمه الناس). قول أم المؤمنين:(حطمه الناس): أي أنهكته الأعباء التي تحملها، يقال: حطم فلاناً أهلُه: إذا تحمل من أعبائهم ما تحمل وجعله ذلك منهكاً متعباً، يقول النووي: (كأنه لما حمله من أمورهم وأثقالهم والاعتناء بمصالحهم، صيروه شيخا محطوما. والحطم كسر الشيء اليابس)، فساعتها صار يصلي جالسا.. وهذا جانب من سيرة المصطفى لا أدري كيف غفل عنه الدعاة والمنظرون المعاصرون للمنهج الإسلامي، أو قل: لم يوفوه حقه، فباب من أبواب البر تصفه السيدة عائشة بأنه كان السبب في إنهاك قوة النبي صلى الله عليه وسلم حتى أعجزه عن القيام في الصلاة، هل تراه أخذ ما يناسبه من الدعوة إليه وتفصيل القول فيه فضلا عن تطبيقه في واقعنا الإسلامي المعاصر؟ مع أننا كثيرا ما سمعنا أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي من الليل حتى تتورم قدماه، فلماذا أغفلنا ذكر تلك العبادة التي بسببها عجزت ساقاه عن حمله في آخر عمره؟ أعظم ما يلفت نظرك هنا، هو هذه الشمولية في المنهج النبوي الذي جاء رحمة للعالمين، فلم يعرف هذا المنهج طغيانا لجانب الدعوة إلى الله على جانب السعي في حل مشكلات الناس، فضلا عن أن يعرف فصلا كاملا يمارسه البعض بلسان حاله وإن لم يعتقده في قرارة نفسه، وكأن هذه المهام ينبغي أن تناط بأهلها من عامة المجتمع، أما الإسلاميون: فهم أهل دعوة وتعليم لأمور الدين، ولا يدرون أنهم حين يتبنون بلسان حالهم هذا التصور والتطبيق يرسخون بل ويأصّلون للفصل بين الدين والحياة، لو ظل علماني ينظّر ويؤصل له لسنين لعجز عن إيصال الرسالة بالوضوح الذي يمكن أن توصله تلك الممارسة. إذ تقررت هذه الحقيقة بصورة مجملة، فإني أدعوكم معاشر القراء إلى تأمل بعض الأحاديث والوقائع المتناثرة في سيرته صلى الله عليه وسلم، لنرى كيف تكون القيادة وكيف تكون أعباؤها، وكيف يغط في سبات عميق من رام قيادة الناس ولم يطرق هذا الباب.. يحدثنا أنس رضي الله عنه –كما في البخاري- فيقول: (كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس وأشجع الناس، ولقد فزع أهل المدينة ليلة فخرجوا نحو الصوت فاستقبلهم النبي صلى الله عليه وسلم وقد استبرأ الخبر وهو على فرس لأبي طلحة عري وفي عنقه السيف وهو يقول (لم تراعوا لم تراعوا...).). فانظر إلى الإقدام والمبادرة والإيجابية، وانظر إلى بذل النفس وتعريضها للخطر، فقد كان يرى نفسه –صلى الله عليه وسلم- أولى الناس بتأمين قومه ودفع الخطر عنهم، فخرج منفردا ولم يوقظ أحدا ليصحبه. وقريب من هذا المعنى قول علي رضي الله عنه يصف حال النبي صلى الله عليه وسلم في الحرب: (كنا إذا اشتد البأس اتقينا برسول الله - صلى الله عليه وسلم ). إنها ليست فقط مشاركة بالنفس وتعريض لها للمخاطر، بل هي قيادة للناس وتصدر للصفوف وتحمل للضربات الأولى. كان صلى الله عليه وسلم لا ينتصر لنفسه أبدا، ولا يغضب إلا إذا انتهكت محارم الله، ولكنه أبدا ما كان يفرط في حقوق الناس، بل كان دوما يسعى لنصرة المظلوم والأخذ على يد الظالم، وهو الذي شهد حلف الفضول في الجاهلية، تعاهد فيه ومن معه من قريش على أن لا يجدوا بمكة مظلومًا دخلها من سائر الناس، إلا قاموا معه وكانوا على من ظلمه حتى ترد عليه مظلمته، وقال إنه لو دعي إلى مثله في الإسلام لأجاب. جاءته المجادلة تشتكي إليه والله يسمع تحاورهما، وكانت تأتيه الجارية فتأخذ بيده وتذهب به إلى أي سكك المدينة شاءت، ما اعتذر عن ذلك بكثرة المشاغل أو بتراكم أعباء الدعوة، ذلك أن دين الله لا يتجزأ، ولله عبودية يحققها العبد الصالح الذي فهم عن ربه في كل موقف يتعرض إليه وفي كل منزل ينزله. وإذا كان متقررا أن الله قد أرسل نبيه صلى الله عليه وسلم ليعلم من يتبعه ممن ينقلب على عقبيه، وجعل اتباعه صلى الله عليه وسلم دليلا على محبته سبحانه وشرطا –في ذات الوقت- لتحصيل حب الله للعبد (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله)، فإنه ينبغي أن يُعلم أن الناس يتفاوتون في درجات اتباعهم، وأن بعض الناس قد يتبع النبي صلى الله عليه وسلم فيما لا يتضمن كبير مشقة، ثم إذا دعي إلى اتباع يصاحبه بعض العناء لم يجب. يقول الله تبارك وتعالى: (ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال..). فإذا كان النظام القمعي السابق قد نجح في تحجيم الإسلاميين وعزلهم بالكلية عن المساهمة في الإصلاح السياسي والاجتماعي والحقوقي وغير ذلك من الأبواب، وحصر جهودهم في تعليم الناس لقضايا الفقه والعقيدة والأخلاق، فها قد سقط النظام، وها قد فتح باب الإصلاح على مصراعيه، فهل نقتحم ساحة هذا الجهاد، أم نكف أيدينا ونتمنى لو لم يكتب الله لنا الحرية؟ هل سنكتفي بالحشد والتظاهر لإيصال صوتنا، أم ننتقل إلى قيادة المجتمع وتجشم عناء حل مشكلاته ومواجهة تحدياته، في عصر كاد الناس أن يفتنوا، وكاد بعضهم أن يصرح: (ولا يوم من أيامك يا مبارك!)؟ نعم، لابد أن تستمر الدعوة إلى الله في مساجد مصر وشوارعها بل وفي كل بقعة من بقاع أرضها، فهذه أشرف الوظائف ولا ريب، لكن المقصود أن الإسلاميين لا ينبغي أن يكونوا بمعزل عن هموم المجتمع وتحدياته العظام، بل لابد أن يكونوا أول من يضرب بسهم في حل تلك المعضلات التي أضحت حديث الرجل المصري في الشارع، من انفلات أمني وفقر وضيق عيش وبطالة وتدني مستوى الرعاية الصحية وانحدار في المجال التربوي والتعليمي..هذا ما يشغل بال الناس اليوم، فضلا عن خوف القطاع العريض منهم من ضياع مكتسبات الثورة وفرار رموز الفساد وقتلة الثوار من القصاص. بل أقول: لا يكفي أن يضرب الإسلاميون بسهم فقط، بل ينبغي أن يتصدروا هذا المشهد، حتى يعلم الجميع أنه حيثما كانت الدعوة إلى شرع الله وتطبيقه كان الاستقرار والنهضة وإيصال الحقوق لمستحقيها. هذا في نظري لا يكون إلا ببذل جهود في استقراء الواقع ثم جهود في التخطيط ثم طرح موضوعي للحلول، ثم جهود وجهود في العمل المتواصل لتطبيق هذه الحلول للارتقاء بحال البلاد. إنها جهود تنوء بها الجبال، ولكن لا تخور أمامها عزائم الرجال، وإذا كانت النفوس كبارًا تعبت في مرادها الأجسام.. ينبغي أن يدرك الإسلاميون –بشتى توجهاتهم وعلى مختلف مستوياتهم- أن الاختبار قد بدأ بالفعل، وأنهم سيخرجون من هذا الاختبار وقد ارتسمت لهم إحدى الصورتين في أذهان الناس، فإما صورة إنسان آتاه الله بسطة في الجسم، يخرج في كل يوم مرة أو مرتين ليستعرض قوته، يتبختر في مشيته ويجرجر حلته، ولكنه لا يُرى أبدا حين البأس، بل إذا حمي الوطيس: كان بين جدران بيته ينتظر انجلاء الغبار، ليخرج ثانية مستعرضا قوته التي ما انتفع بها أهل الحي بشيء...وإما صورة رجل زاده الله قوة إلى قوته وأنعم عليه بالشجاعة والإقدام، شديد التواضع شديد الحرص على مصالح إخوانه، يدرك قول ربه (ليبلوكم فيما آتاكم)، فيسعى لبذل ما آتاه الله من قوة في نفع الناس ابتغاء مرضاة الله، لا يظهر قوته إلا لمصلحة شرعية، فإذا داهمهم العدو واشتد البأس، كان في الصفوف الأولى، يتقي الناس به كما كان الصحابة يتقون برسول الله صلى الله عليه وسلم، يغزو جموع العدو والناس على أثره. نطمع في رجال يحبون الله ويحبهم الله، يبذلون ويبذلون حت يحطمهم الناس، فلا يكاد الواحد منهم يصلي إلا جالسا.. إن فعلوا، فلن يجد خصوم المشروع الإسلامي إلا أن يلمزوا المطوعين منهم في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم، وهنا تكون المعركة قد انتهت، وفاز فيها من بذل الجهد وأخلص النية، والله يعلم المفسد من المصلح.. معاشر الإسلاميين.. دعوا خصومكم يتكتلون ويتحزبون ويعقدون الأحلاف ويشكلون الجبهات، فلن يخالفوا سيرتهم الأولى ولو حالفوا الجن، فما رأينا منهم سوى التشدق والتعالي على الغير والإغراق في التنظير لأمور أزعم أن بعضهم لا يدركها بصورة كاملة، نسمع منهم ضجيجا يكاد يصم آذاننا وقل أن نرى طحينا، وانشغلوا أنتم بما فيه صلاح البلاد والعباد، وخذوا الراية وامشوا ولا تلتفتوا، حتى يفتح الله على أيديكم، وليكن ردكم على كل منتقص عُدم الإنصاف: الجواب ما ترى لا ما تسمع.