حين سطعت شمسُ الإسلام على جزيرة العرب، لم يكن لهم دولةً يحيون في ظِلال استقرارها وعدلها. بل كانوا يعيشون في قبائلٍ متفرقةٍ، متفاوتةِ القوة، كثيرة التنازع والإغارة على بعضها البعض؛ لأبسط الأسباب. وكان الرجل يُمسي سيداً في قومه، ويَضحى صريعاً، أو عبداً رقيقاً، وتُصبح السيدات في أقوامهن سبايا تُبَاعُ وتُشترى، وأطفالهن عبيد!!! وحيث لم تكن لهم دولة موحدة، فلم يحكم علاقاتهم قانونٌ عام؛ ولذا كانوا يفصلون في قضاياهم وفقاً للأعراف والتقاليد المستمدة إما من تجاربهم ومعتقداتهم، أو ممن جاورهم من الأمم كالفرس والروم، أو ممن اختلطوا بهم كاليهود والنصارى. وقد اختلفت طرق حسم الخصومات باختلاف القبائل والأماكن والبيئة، فقضاء أهل الحضر اختلف عن قضاء البادية. فكان بعضهم يحتكم إلى شيخ القبيلة؛ لشرفه ومكانته، وآخرون احتكموا إلى أشخاص اشتهروا بالتحكيم من أهل الرأي والمجد والتجربة. ومنهم من احتكم إلى الكُهان في المعابد، وبعضهم لجأ إلى العرافين الذين يقضون بالفراسة والقرائن. غير أن الأحكام افتقدت إلى القوة التنفيذية التي تُجبر الخصوم على الانقياد والامتثال، إلا من كلمة شرف فردية أو قبلية كان يأخذها المحكم كعهد وميثاق من المتخاصمين – أمام شهود- من أجل قبول حكمه في الخصومة. وبينما كانت القبائل العربية على هذا الحال من التفرق والاختلاف والتنازع والعصبية، لا تجمعها دولة واحدة، ولا تخضع لنظام عام، ولا ينظم عيشها قانون يُطَبَق على الجميع، وليس فيها سلطة عامة تشرف على القضاء، فتُوَحِد مصادره، وتُحدد جهاته، وتُلزم الخصوم بتنفيذ أحكامه... إذ سطعت شمس الإسلام الحنيف، دين الله الخالد، وشرعه المتين، الذي جمع أفئدة وأرواح الجميع على رباط جديد لم يعرفوه من قبل، ألا وهو رِباط العقيدة، رِباط الإيمان بالله الواحد الأحد. ذاك الرباط العقدي الذي آخى بينهم، فجمع شملهم، ووحد صفهم، وأذهب عنهم العصبية القبلية المقيتة، وسَمَى بنفوسهم، وهذب أخلاقياتهم، فصاروا أسياد الأرض لحقبة طويلة خالدة من الزمن.
وقد كانت حادثة هجرة النبي صلى الله عليه وسلم من مكة بمثابة الإعلان الرسمي لقيام دولة العرب، دولة الإسلام الأولي بالمدينة. حيث مَثَّلت الأخيرة إقليم الدولة الجديدة، ومَثَّلَ المسلمون من المهاجرين والأنصار شعبُها، وكانا في انتظار الركن القانوني الثالث من أركان قيام الدولة، والمتمثل في الإدارة أو السلطة العامة والتي تمثلت في شخص النبي صلى الله عليه وسلم. وبالفعل جاء الرسول فرفع لواءً واحداً انضوى تحته – تدريجياً- كل العرب وغيرهم من المسلمين من أجناس أخرى، حيث أقام دولةً واحدةً، توافرت لها كل مقومات البقاء والنهوض، وكان من أهم أركان السلطة فيها سلطة القضاء المُؤَسَس على الحق والعدل، والمُحَّكِم لقانون واحد، هو قانون السماء، والمتمثل في التشريع الرباني الذي طبقه النبي بمنتهى العدل والشفافية على جميع أفراد المجتمع، دون تفرقة بين سيدٍ وعبد، أو غنيٍ وفقير، أو عربيٍ وأعجمي...
وقد كانت إشارة البدء في تكريس سلطة قضائية إسلامية موحدة ونافذة ممثلةً في الصحيفة الدستورية التي وضعها النبي (صلى الله عليه وسلم)، مبيناً فيها العناصر البشرية التي يتكون منها كيان الدولة الإسلامية الوليدة، حيث: المهاجرين، والأنصار، واليهود والمشركين. وقد نصت هذه الصحيفة على تركيز السلطة القضائية بيد الرسول (صلى الله عليه وسلم) وحده، فهو الذي يحكم في جميع المنازعات، سواءً أكان ذلك بين المسلمين، أم كان بين المسلمين واليهود، أم كان بين غيرهم في المدينةالمنورة، فقد جاء فيها: "... وإنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يُخاف فساده، فإن مرده إلى الله عز وجل وإلى محمد رسول الله (صلى الله عليه وسلم)".
ومنذ تلك اللحظة أصبح هناك سلطة قضائية، مركزية، نافذة، يرْجِع إليها سكان المدينة جميعاً، قال تعالى: {إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أنزل الله ولا تكن للخائنين خصيماً }، وقال أيضاً: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً }، وقال: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلاً} . وبذلك كان النبي (صلى الله عليه وسلم) القاضي الأول والأعلى بين المسلمين، وذلك بتنصيب من الله عز وجل له، وأصبح كل فرد في الدولة الإسلامية ملزما كذلك بالاستجابة والامتثال متى دُعِيَّ إلى رسول الله للمخاصمة، كما أصبح حُكمه (صلى الله عليه وسلم) ملزماً للناس كافة، سواءً أكان بوحي من الله تعالى، أو باجتهاد اجتهده هو، وأصبح فيما بعد سنةً ملزمة. وقد كان لتنظيم سلطة القضاء، وتوحيدها، وتكريسها بيد النبي (صلى الله عليه وسلم) بالغ الأثر في خلق الاستقرار والنظام في المجتمع، وتحقيق العدالة بين أفراده.
وقد أرسى القضاء النبوي أُسُس وقواعد القضاء الإسلامي، وآدابه العامة والتي تعتبر تطبيقاً عملياً كاملاً ودقيقاً لنصوص القرآن الكريم، والسنة النبوية المطهرة، كما وضع القضاء النبوي الحد الفاصل للمبادئ والقيم والقواعد والأحكام التي كانت سائدة لدى العرب قبل الإسلام، فقبِل منها الصالح المُفيد، وأبطل منها الفاسد الضار المخالف لدين الله وشرعه.
وبذلك كانت القضايا التي باشرها النبي (صلى الله عليه وسلم) جزءاً من السنة النبوية الشريفة التي تُمثل المصدر الثاني من مصادر التشريع الإسلامي، وهذه القضايا كانت بمثابة تطبيق واقعي وممارسة فعلية كرست الأساس النظري، والنموذج العملي البسيط للدعوى القضائية، والخصومة، وطرق والإثبات، وإصدار الأحكام القضائية وتنفيذها في الإسلام، فكانت نموذجاً أكمل، وأساساً أرسخ لقضاء ضرب أروع المثل في تحقيق العدالة بين الناس على مر العصور، وما زالت مآثره تُروى، ويُستشهد بها، ويُستند إليها حتى اليوم.
وبمشيئة الله تعالى سنحاول من خلال مقالات دورية إلقاء ضوء قريب على أهم أُسس وقواعد ومبادئ وآداب القضاء الإسلامي، وأهم الضمانات التي كرسها لتحقيق العدالة فيما يتعلق بالقاضي الذي يحكم، والخصوم التي تترافع، والحكم الذي يصدر، وكيفية تنفيذه.