ليست المشكلة أن تخسر الدولة سبعة مليارات أو أربعة عشر مليارا ، تلك هي الخسارة الأقل ، وإنما الأخطر أن تخسر الدولة ذاتها ، أن تخسر إدراك مواطنيها والعالم بأنها "دولة" ، هذا بالضبط ما تسرب لي وأنا أتابع الفصول الهزلية لتسوية أزمة آل ساويرس مع الدولة المصرية ممثلة في الضرائب ، إذ بدا أنه لا توجد دولة وإنما مجموعات مصالح تضغط على بعضها أو تبتز بعضها قبل أن يقوموا بجلسات عرفية لتسوية خلافاتهم ، هذا ملخص المشهد . أصل الحكاية في امتلاك ناصف ساويرس وشركته أوراسكوم للإنشاءات لشركة أوراسكوم بيلدنج ماتيريلز هولدنج ورغب في بيعها لشركة لافارج الفرنسية وهو البيع الذي تم بالفعل عام 2007 ، بقيمة تقترب من ثمانين مليار جنيه مصري ، وهو ما يعني أن الشعب المصري يستحق في هذه الصفقة قرابة أربعة عشر مليار جنيه 20% كقيمة الضرائب المستحقة ، فقام بعض "الدهاقنة" بنصح البائع بأن يسارع بتسجيل الشركة في البورصة ثم يبيعها من خلال البورصة التي كانت تتمتع حينها بإعفاء ضريبي ، وهو ما تم ، وبالتالي ضاع على الشعب المصري والدولة المصرية بالتحايل حوالي أربعة عشر مليار جنيه قيمة الضرائب ، ظل الجدل دائرا بين مصلحة الضرائب التي اعتبرت ما حدث تحايل للهروب من مستحقات المال العام وبين آل ساويرس عدة سنوات ، تجمدت تقريبا بعد ثورة يناير لاضطراب الأحوال ، ثم تجددت عندما تولى الرئيس الأسبق محمد مرسي المسؤولية ، حيث كان يبحث عن أي مكان فيه مال عام ضائع لكي ينقذ نفسه واقتصاده الذي كان على شفا انهيار ، ففتح ملف آل ساويرس مع الضرائب ، وقررت الضرائب أن ساويرس متهرب من أربعة عشر مليار جنيه ضرائب ، وبعد مفاوضات لم تستمر طويلا أقر ناصف ساويرس بأنه متهرب من الضرائب ، وسجل ذلك كتابة ، بدون أي تردد ، لم يفكر في اللجوء إلى القضاء ، ولم يلوح باللجوء إلى التحكيم الدولي ، وكل ذلك كان في متناوله ومن حقه ، لكنه لم يفعل ، إقرارا منه بأن الدولة محقة ، وأنه معترف بتهرب شركته من الضرائب ، وتم التوصل إلى تخفيض القيمة إلى سبعة مليارات جنيه ، أي النصف ، كتسوية ، وأذكر يومها أني كتبت مقالا غاضبا سألت فيه مرسي على أي أساس منحت آل ساويرس سبعة مليارات جنيه تخفيضا من المال العام . دفع ناصف الجزء الأول من حقوق الشعب المصري عليه فورا ونقدا ، اثنين مليار ونصف المليار جنيه ، وكتب باقي المبلغ المستحق (أربعة مليارات ونصف) شيكات واجبة السداد في فترات محددة ، ثم وقعت الهبة الصاخبة على مرسي وتمت الإطاحة به في 3 يوليو 2013 ، وكان آل ساويرس في القلب من الحملة على مرسي و"شركاء" في تحضيرات مظاهرات 30 يونيو ، وبعد إطاحة مرسي توقف ساويرس عن دفع الشيكات المستحقة للدولة ، وبدأنا نسمع عن دورة غريبة في دهاليز النيابة العامة ومصلحة الضرائب ، يتسرب منها كلام يصعب نشره ، لكن رئيس المصلحة لجأ إلى المحكمة التي قررت في حكمين متتالين سجن ناصف ثلاث سنوات وتغريمه خمسين مليون جنيه لامتناعه عن السداد ، ثم سمعنا عن أن لجنة مراجعة طعون شكلتها مصلحة الضرائب انتهت إلى أن ساويرس غير متهرب من الضرائب ، وأن ورقه "سليم مائة في المائة" !!، وهي نفس اللجنة ونفس المصلحة التي أكدت من قبل أيام مرسي تهربه من الضرائب ، وهي نفس اللجنة ونفس المصلحة التي عقدت تسوية مالية معه وحصلت على اثنين ونصف مليار نقدا والباقي شيكات ، أيام مرسي ، ثم قرأنا بيانا "إنسانيا وطنيا" رفيعا من ناصف ساويرس يقول فيه بأنه سيتبرع بمبلغ الاثنين ونصف مليار جنيه الذين دفعهم للدولة أيام مرسي وأصبحت الدولة ملزمة بإعادتهم ، سيتبرع بهم لصندوق تحيا مصر الذي دعا إليه الرئيس السيسي ، وأنه يفعل ذلك بوازع وطني خالص وليس بضغط من أي جهة في الدولة !!، ثم قرأنا عن وعد "إضافي" من ناصف بأنه سيتبرع بمليار ثالث لنفس الصندوق في إطار التسوية . للمسألة بقايا "عك" قانوني ، لأن ساويرس صدر ضده حكم قضائي نهائي بالسجن والغرامة ، وهو واجب النفاذ "في دولة القانون" ، لكنه لن ينفذ بطبيعة الحال ، لكن كيف المخرج منه ، هذا ما يتم طبخه الآن ، كما أن الدولة ممثلة في وزارة المالية من حقها الطعن على القرار خلال مدة ثلاثين يوما ، لكن كلام وزير المالية "هاني دميان" يوحي بأن الدولة لن تطعن على القرار!! . الواقعة تعطي الانطباع بأن الدولة لا تدار وفق قواعد وقوانين ولوائح وبنية مؤسسية منضبطة ، وإنما أجهزة الدولة ومؤسساتها يتم التلاعب بها لترويض رجال الأعمال أو ابتزازهم ، وأن مصلحة الضرائب في عهد مرسي تقول أن ساويرس متهرب من الضرائب وفي عهد السيسي تقول أنه ليس متهربا من الضرائب ، وساويرس نفسه يكتب بخط يده معترفا بتهربه من الضرائب في عهد مرسي ، وفي عهد السيسي يقول أنه سيتصدق على الدولة المصرية بالاثنين مليار ونصف الذين دفعهم أيام مرسي من باب الجدعنة والوطنية !! ، والغريب أن هذه "اللعبة" قالوا أنها لتشجيع رجال الأعمال وبث الطمأنينة في قلوبهم تجاه "مناخ" الاستثمار في مصر ، بينما الحقيقة أن الواقعة من أكبر ما "يرعب" أي مستثمر ، لأنه لا يتعامل مع دولة وقانون ومؤسسات ثابتة وراسخة وشفافة ، وإنما مع "مزاج" الحاكم ، فإذا صحا من نومه ومزاجه "معكر" يمكن أن يكلف أجهزة عديدة ومديدة في الدولة بضبطه وحبسه ومنعه من السفر هو وأولاده و"اللي خلفوه" بتهمة التهرب الضريبي أو انتهاك المال العام أو أي مادة من مواد "الكتاب الأصفر" للحكومة .