صحف ساويرس وإبراهيم المعلم ونجل صفوت الشريف أمس وضعوا على مدار اليوم عناوين أشبه بالبيانات الحربية ، إنذارات وتهديدات للجميع ، ماذا وإلا ، وتمخض التهديد في النهاية فولد فأرا فوق إحدى المنصات لم يعبأ به أحد ، لكن الجديد وربما "اللذيذ" في تطور التهديدات أن ممدوح حمزة ومجموعته هدد بالدعوة للعصيان المدني والإضراب العام ، وأنا أستحلفه بالله أن يسارع بإعلان هذه الدعوة اليوم قبل غد ، ولو استجاب له عشرة محلات فقط لبيع الكشري فسوف أنصبه رئيسا للجمهورية . هذه المجموعات تنفصل تدريجيا عن الناس ، عن الشارع ، عن المجتمع ، عن الشعب ، وكلما انفصلت عن المجتمع كلما زادت حركتها وخفتها وطيشها دون أن تدرك أن هذه السرعة إنما هي بسبب انفصالها عن "قطار الوطن" ، هو لا يجر أي شيء وراءه ، هو يضرب في متاهة دون أن يسحب أحدا أو شيئا وراءه ، ولو دعوا للعصيان المدني فستكون فضيحة ، ولو دعوا للإضراب العام فسوف تكون الفضيحة أكبر ، لأنه لن يستجيب لهم شارع واحد في طول البلاد وعرضها ، هل هم يجهلون ذلك ، هذه المجموعات تنسى أنها وغيرها نجحوا عندما تلاحموا مع الجميع ، ومع الجماهير العريضة ، ومع المواطن العادي ، وأن الثورة لم تكن عشرة آلاف أو مائة ألف في ميدان التحرير ، وإنما كانت عشرة ملايين مواطن مصري خرجوا إلى الشوارع والميادين من الاسكندرية إلى أسوان في "جمعة الرحيل" ، وعندما تخسر هذه الملايين ، أو تتجاهلها ، أو تتجاوز إرادتها ومصالحها ، فأنت تعود إلى الضمور التنظيمي القديم ، وتنتهي حتما كما كانت إلى فقاعات شبابية يخطب فيها جورج إسحاق وعبد الحليم قنديل على سلالم نقابة الصحفيين . الثورة ما زال أمامها مشوار من العمل والضغط والمتابعة لإنجاز أهدافها ، لكن حالة التشظي التي يفرضها البعض الآن برعونة واستخفاف ومحاولة للانفراد بالمواقف والقرارات تهدد قدرة الثورة على إكمال مشوارها ، والعربي الحكيم كان يقول في بساطة : تأبى الرماح إذا اجتمعن تكسرا .. وإذا افترقن تكسرت آحادا ، ورماح الثورة كانت عصية على الكسر عندما كانت واحدة موحدة في رؤيتها وإرادتها ومطالبها وتنسق جهودها ومعركتها ، فانتصرت ، ولكنها ستكون بكل تأكيد سهلة الكسر إذا افترقت وتنازعتها المصالح الضيقة والحسابات الخاطئة ، وفي النهاية تخسر مصر معركتها من أجل الديمقراطية ، لأن كل عشرة أنفار أو ألف يقررون بمعرفتهم معركة اعتصام أو تظاهر أو إضراب دون أي اعتبار لشركاء الثورة ، بل كأنهم يقررون المعركة وعلى الباقين أن ينفذوا التعليمات ، بل إن الواضح أن بعض القوى أصبحت تتهرب عمدا من شرط التنسيق بين قوى الثورة ، وذلك يعود إلى أن المطالب التي يتم التقدم بها لا تشكل أي إجماع ولا حتى رأي غالب ، بل رأي ضد الشعب وإرادته ، ويتم الأمر بصورة "التفافية" وخادعة ، بأن يقدم لك قائمة من عشرة مطالب للثورة ، وكلها متفق عليها ، ثم يزرع في وسطها أو آخرها مطلبا أو مطلبين يكفيان لتفجير الموقف كله ، وعلى سبيل المثال ما الذي يربط مطلب وقف الضباط القتلة وسرعة محاكمتهم بالدعوة إلى تشكيل مجلس رئاسي ، وما الذي يربط مطلب الحد الأدنى من الأجور بإقرار مطلب الدستور أولا ، هي محاولات لسرقة الشعب أو "نشل" إرادته ، ولذلك رفضت القوى الرئيسية المشاركة في هذه اللعبة الرخيصة . الذين يهاجمون المجلس العسكري الآن ويحاولون تشويهه هم أنفسهم الذين كانوا يطالبون قبل ثلاثة أشهر فقط بأن يمتد حكم المجلس العسكري إلى سنتين أو ثلاثة لحين استقرار الأوضاع الأمنية وتمكن الأحزاب الجديدة من بناء ذاتها ، ولكنهم بعد أن رأوا إصرار المجلس العسكري على إنجاز الانتخابات البرلمانية والرئاسية في موعدها لتسليم القيادة إلى سلطة مدنية يختارها الشعب وتكرار التصريحات الصارمة والحاسمة من قيادات المجلس بالتزامهم بالخريطة السياسية التي حددها استفتاء الشعب الدستوري الشهير ، انقلبوا عليه ، لأنهم يشعرون أنهم لن ينجحوا في الامتحان الديمقراطي ، وأقسم بالله غير حانث ، أن كل هذه التحركات والاستفزازات والألاعيب التي تتم حاليا مدعومة بإعلام رجال عصر مبارك ، هدفها الأساس والجوهري تعطيل الاستحقاق الديمقراطي ، وإلغاء الانتخابات البرلمانية أو على الأقل تأجيلها ، وهم يحاولون إرباك كل شيء من أجل هذه الغاية ، خاصة بعد أن فشل رهانهم على الانفلات الأمني في الاختبارات الجماهيرية الحساسة ، مثل تنظيم الاستفتاء الدستوري وإنجاز امتحانات الثانوية العامة وإتمام مسابقة الدوري العام لكرة القدم ، وكلها تمت كما هو مقرر لها بنجاح وبدون أي فوضى أمنية ، وما شابها من بعض أحداث سلبية هي كالمعتاد الذي كان يحدث في سنوات عصر مبارك ، وهذا ما يسقط حجتهم الشهيرة بطلب تأجيل الانتخابات لأن الأوضاع الأمنية لا تسمح . والذين يهاجمون المجلس العسكري الآن ويطالبون بإبعاده عن السياسة والحكم عليهم أن يكونوا صرحاء مع الجميع ويجيبوا عن السؤال الضروري : ما البديل؟ ، وأتحدى أن يطرح أحدهم أي بديل منطقي وواقعي وأخلاقي وديمقراطي سوى انتقال سلمي وآمن للسلطة إلى الشعب من خلال انتخابات ديمقراطية تفرز برلمانا شعبيا وحكومة وطنية ورئيسا منتخبا ، وأي كلام خلاف ذلك هو محض بحث عن سرقة للثورة وسطو على السلطة لا صلة له بالديمقراطية ومعاييرها . [email protected]