التعليم المجاني في مدارس وجامعات الدولة المنشأة من الأموال العامة فرض عين نصت عليه كل الدساتير المصرية، ومجانية التعليم ليست فقط من أجل تمكين الفقراء من تعليم أبنائهم كما يعتقد معظمنا، وانما أيضا وربما هذا هو الأهم من أجل أن تتمكن الدولة من بسط سياساتها التعليمية وبناء الوعي المجتمعي والعقل الجمعي لأبناء الوطن بنفس الدرجة وبنفس الكيفية في كل شبر من أرض مصر علي حد سواء، وهذا هو الهدف الأساسي من التعليم العام، ولذلك لا نجد دولة واحدة في العالم تدخل كل أنواع التعليم وأنواع المدارس في مراحلها السنية الأولي كما نفعل نحن، لأن التعليم في مثل هذه الأعمار الصغيرة كالنقش علي الحجر كما يقولون، ولذلك تحرص الدول كافة علي توحيد نظام التعليم في المرحلة الالزامية علي الأقل لكي يكون تعليما مجانيا باللغة الرسمية للبلد "لسان الأم"، ولا تجرؤ دولة علي أن تلعب في عقول أطفالها بتبني كل تلك النظم المتنافرة من المدارس كما نفعل نحن، حيث سمحت دولتنا العتيدة بانشاء مدارس تجريبية لغات بمصروفات دراسية، ثم مدارس خاصة لغات ومدارس دولية بلغات أهلها، ثم سمحت الدولة للجامعات الحكومية بانشاء برامج تعليم "متميز" بمصروفات لمن يريده، وأخيرا سنت الدولة العتيدة تشريعا يبيح لها المشاركة في انشاء الجامعات "الأهلية" التي لا تهدف للربح!!، كما صدر قرار لوزير التربية والتعليم بتغيير مسمي مدارس اللغات الي "المدارس الرسمية للغات"، وأنا أفهم وأتفهم حاجة الدولة لتدفقات مالية للصرف علي التعليم المجاني، وأفهم وأتفهم ان الدولة يعز عليها أن تقف مكتوفة الأيدي وهي تري وتسمع ما تجنيه مؤسسات التعليم الخاص من أرباح باهظة، في حين أنها "أي الدولة" لا تجد ثمن مقعد دراسي تقدمه لتلميذ محتاج في فصل دراسي مكتظ بمائة وعشرين تلميذ بين جدرانه الأربعة، لكننا وكما قدمت نبحث دائما عن الطريق الخاطئ، طريق ثغرات القوانين التي نلتف بها علي الدساتير المتعاقبة، وبدلا من أن نعدل مادة مجانية التعليم في الدستور التي لم يعد يعمل بها أحد، نلجأ لفكرة الرغيف المحسن والطباقي في التعليم بسن قوانين هي مخالفة للدستور بكل تأكيد، لكن من خلالها نصنع تعليما "متميزا" وآخر "أهليا" وآخر "رسميا للغات" ورابع "أجنبيا"، ومن خلال كل تلك التنويعات التعليمية نلتف التفافا علي دساتيرنا، فنزعم أنها غير هادفة للربح، ثم نحصل رسوما دراسية من طلابها لا يستطيع تحملها الا ذوو الحظوة والقدرة، أما ابناء الغلابة من أهلنا الطيبين فنترك لهم مدارس وجامعات الدولة تئن من تعليم أقل ما يوصف به حسب أدبيات الدولة أنه "غير متميز"، وهي مخالفة صريحة للدستور ترتكب عيانا جهارا أمام أعيننا دون أن نستطيع لها دفعا، ثم نتشدق كل الوقت بأن "لا مساس" بمجانية التعليم!!، ويا كل مسئول عن التعليم في هذا البلد .. التعليم الالزامي له قواعد وأصول معروفة عالميا وأولها أن تسود المجانية ولغة البلد في كل مكونات المنظومة، أما هذا السمك لبن تمر هندي في تعليمنا فيقودنا الي كارثة، وهو يخالف أبسط قواعد العدالة الاجتماعية ومبدأ تكافؤ الفرص.