اتصل بي أحد أصدقائي السلفيين القدامى- ممن نشأت على وجوههم - في وقتٍ متأخرٍ من الليل يسلم علي ودعاني إلى منزله فأجبته على التو، ووجدته مستاءًً إلى الغاية، قال لي: ما رأيك في أداء السلفيين الآن؟، فأحببت أن أستمع منه فقلت له: ما الذي حملك على هذا الاستياء؟، فأجاب قائلًا: جاءني أحد الإخوة وقال لي: هات عشرة جنيهات فأخرجت ثم قال: اكتب اسمك، فقلت له: ما هذا؟، قال: حزب النور، فقلت له: هذا غير ما تربينا عليه، من حرمة دخول المجالس النيابية لأنها كذا وكذا ...، وأبى أن يكتب اسمه، فذهب الأخ على التو، للشيخ... وقال له: إن الأخ فلان يشكك في المشايخ، يقول: فلما ذهبت نهرني الشيخ وقال لي: ما الذي تقوله، فقلت: يا شيخ، المشايخ غيروا في مواقفهم وأقوالهم، فغضب الشيخ من قولته، قال لي فهدّأت الأمور وانصرفت. أكثر ما لفتني في هذه الحكاية جملة "بيشكك في المشايخ"، وكيف أنه ارتكز في عقل ذاك الذي ذهب إلى الشيخ أن المشايخ أصبحوا من جملة الثوابت التي ينبغي المحافظة عليها ألا يشكك أحد في رأيهم أو رؤاهم، فقلت لصاحبي: حتى لو شككت في المشايخ يعني أنت شككت في النبي عليه الصلاة والسلام. تذكرت أيضًا حوارًا كان بيني وبين أحد الإخوة في الثورة وما حدث فيها، فانطلق في سَبِّ الشباب الثائرين وأنهم قاموا لبطونهم، وأنهم لادينيون...إلخ، فقلت له: أنا واحد ممن شاركت فعبس في وجهي، فقلت له: أنا أقول لك كيف أخذت القرار، فقطع كلامي قائلًا: هذا أول خطأ وقعت فيه: أنك قِست من نفسك، فقلت له: وما المشكلة؟، فاستغرب جدًا وفهم كلامي بأني أشكك في المشايخ وانقلب الحديث إلى سُباب وشتيمة لي، وبأني لن أفهم مهما بلغ علمي مثلما يفهم المشايخ، وأني وأني ... هنا لا بد أن نعترف بمشكلة حقيقية نعاني منها في كثيرٍ من التيارات الإسلامية، وفيما يخص التيار السلفي فإن تقديس المشايخ والغلو فيهم واقع بشكل كبير في القاعدة العريضة من الشباب السلفي وفيما فوقهم أيضًا من الأعمار، بدليل أن نفس ما حصل معي ومع صاحبي حدث ويحدث مع الكثير منا، عندما تناقشه في مسألة فهو مترقّب أتوافق كلام المشايخ أم ستخالفهم أم ستكون مميعًا للأمور وهكذا... هذا الغلو الذي نراه أدّى بنا إلى ضحالة شديدة في الفكر، وإلى فهم الكثير منا المنهج السلفي خطأً؛ من أنه الشيخ فلان وفلان وفلان، وبالطبع إذا دخلنا في هذا الطريق، فسنرجع إلى مبدأ الصوفية "كل شيخ وله طريقة"، وهو حادث بشكل كبير فتجد كل شيخ حوله مجموعة من التلاميذ لا يرون العلم إلا من خلاله، وعليه يعتمدون في شتى العلوم، وقد يكون التلميذ ذكيًا ومتفوقًا حتى على أستاذه، لكنه يستخدم كل ذكائه وإمكاناته إلا في هذه السِّكّة، فيحجب حينئذٍ عقله حتى في الأمور الواضحات؛ ما تصبح عنده واضحة حتى يوضّحها له شيخه، هذا تجلّى جدًا في الثورة السابقة ويتجلّى بشكل مستمر في ممارسات كثيرة تحدث هي خاطئة بشكل واضح، لكن لا يرونها التلاميذ نظرًا حتى يراها المشايخ ولو كانت غامضة على المشايخ فهي غامضة. هنا أصبح المشايخ حاجزًا بين الملتزم وبين تراثه سواء أكان من الكتاب والسنة أو من أقوال الأئمة الصالحين، أو حتى من مشايخ خارج البلدة أو القطر، لهم آراء لا تصبغ بصبغة التبعية للمشايخ. هذا الحاجز يتجلّى واضحًا في كثيرٍ من الملتزمين المغرمين دائمًا في تعظيم مشايخهم، "فلان أعلمُ أهل مصر" قال الشيخ فلان في الشيخ فلان:"العلامة المحدّث"، وغير ذلك من تلك الألقاب التي أصبحت سهلة في متناول الأيدي دون حسيب أو رقيب. وأصبح النفاق بهذه الألقاب جزءًا لا يتجزّأ من الالتزام ومن لم يطلقها ففي قلبه هوى أو كبر أو عجب.. واختر مما بين القوسين. هنا دخل الخلل في الالتزام أيضًا؛ يبينه أكثر أن الشخص عندما يتعصّب للمشايخ بهذه الطريقة وبهذا الأسلوب عندما ينقلب تكون انقلابته كبيرة وعظيمة، وهو دائم خائف ورافض لأي شخص يتعرض لمشايخه لأنه اعتبرهم جزءًا من الدين، وتعظيم شيخه يأتي بتعظيمه وتزكيته. طبعًا في الفترة القادمة سوف نشهد انحسارًا قليلًا فقليلًا لهذه الفكرة؛ ذلك لأن النظام السابق فرض العزلة على كل التيارات ومنع التواصل فيما بينها، بل في التيار الواحد فرضت فيه دوائر منعزلة عن بعض وأصبح الكل "يغني في ليلاه"، أمَا والوضع قد تغيّر ونأمل أن يسير إلى الأمام، فسوف يشهد انفتاحًا كبيرًا، سيعلم الملتزم أن القضايا التي يتكلم فيها شيخه، هناك الكثير يتكلم فيها، وسيعلم أيضًا ما الذي يفلح شيخه ويبدع فيه وما الذي إذا تكلّم فيه شيخه أتى بالعجائب، وحينئذٍ ستهدأ نبرة التعصّب قليلًا وسنفهم الإسلام بصورة أوضح. لا ننسى أيضًا أن الغلو الذي وصلنا إليه الآن، يرجع بالضرورة إلى خطأ من بعض المشايخ، وإعطاء منزلة لنفسه أكبر مما يستحقها ويساعده على ذلك التلامذة، وهنا تجد التلامذة يسمعون شيخهم وهو يخطّئ أبا حنيفة ومالكًا وابن حزم وابن تيمية، ويستسيغون هذا جدًا ويعتبرونه من براعة الشيخ، وفي الوقت نفسه يعترضون بشدة على من يخطّئ شيخهم أو حتى يلومه. وبعض آخر سعى إلى عسكرة تلامذته وتجنيدهم على آرائه وحملهم عليها، ونصب الولاء والبراء حولها، وما خالفها في ذلك فهو (أكمل ما يأتي...)، وأذكر على هذه حادثة وقعت من قديم في مشكلة قديمة حديثة سمّوها (تارك جنس العمل)، أعلم أن إخوة لي أعزاء كانوا يحذّرون من أشخاص وأبعدوهم فعلا من حظيرتهم حتى ظُنَّ فيهم أنهم من أهل البدع والضلال، علمًا بأن المسألة أبسط بكثير مما حدث ويحدث... الموضوع أكبر بكثير من أن يوضّح في هذه المقالة، ولعلّي إن شاء الله أتبعها بأخريات، وأرجو ألا يفهمني أحد بأني "أشكك في المشايخ"، والله المستعان. رامي إبراهيم البنا