في الأول من مارس الجاري كان عمدة لندن كين ليفنجستون على موعد مع دفع ضريبة مواقفه النزيهة وأفكاره الشريفة حيال الإسلام والمسلمين، والقضايا العربية في فلسطين والعراق.. فقد بدأ الرجل تنفيذ قرار الهيئة التأديبية (المخصصة للنظر في أداء المسؤولين المحليين) الصادر ضده يوم الجمعة 24 فبراير 2006 بالتوقيف عن العمل لمدة أربعة أسابيع بسبب تشبيهه في فبراير 2005 صحفياً بريطانياً يهودياً بصحيفة إيفننج ستاندرد اللندنية ب«حارس معسكر اعتقال نازي خلال الحرب العالمية الثانية».. وعللت الهيئة قرارها بأن تصريحات العمدة: «تفتقر إلى الحساسية وتتضمن إهانة غير مبررة للصحفي». وقد جاء هذا القرار بعد أربعة أيام فقط من حكم إحدى المحاكم النمساوية (20فبراير 2006م) على الكاتب البريطاني ديفيد ارفينج بالسجن ثلاث سنوات لإنكاره حدوث المحرقة اليهودية «الهولوكوست». وبالنظر إلى الحكمين نجد أن أولهما لصالح صحفي بريطاني، والثاني ضد صحفي بريطاني أيضاً، لكن القاسم المشترك بينهما هو العقاب على محاولة المساس باليهود.. الجنس أو التاريخ أو الأفعال. وما يراد توصيله إلى الجميع بهذين الحكمين هو أن اليهود خط أحمر لا ينبغي المساس به، وأنهم فوق القانون والنقد، بل وفوق المنطق!! والمتأمل في الحكمين لا شك يدرك إلى أي مدى وصل النفاق الغربي في مسألة حرية الرأي والتعبير، وإلى أي درجة بلغت الازدواجية في المفاهيم والمعايير حيال ما يرفعونه من شعارات عن الحرية . فسب النبي محمد صلى الله عليه وسلم لديهم حرية رأي وحرية تعبير لا ينبغي أن تمس، وتكذيب حدوث الهولوكوست أو مخاطبة صحفي يهودي بطريقة غير مريحة له تمثل خطيئة تستدعي السجن والوقف عن العمل! أعود لعمدة لندن السيد كين ليفنجستون الذي أصبح بمواقفه المناصرة للقضايا العربية والإسلامية على امتداد السنوات الماضية يمثل صوت الضمير الغربي النزيه والحي، فذلك الرجل يعد واحداً من السياسيين القلائل في الغرب الذي لم يكذب على نفسه ولم يرض لنفسه أن الاقتراب من دائرة النفاق السياسي، فكان بحق نموذجاً للضمير الغربي النزيه، وحالة العمدة متجسده في تيار كبير في الغرب بين المفكرين والكتّاب ومنظمات المجمتع المدني التي تتخذ مواقف منصفة من قضايانا العربية والإسلامية، وإن تم التعتيم الإعلامي عليها. ولذلك يترصد له الدوائر اللوبي الصهيوني: لاصطيادهم وإدخالهم القفص حتى يكونوا عبرة لمن يجرؤ على المساس بهم.. وهكذا تم اصطياد العمدة كين ليفنجستون عبر ذلك الصحفي الذي طارده أكثر من مرة واستفزه في مرات عديدة حتى أخرج الرجل عن صبره وصدر عنه ما صدر لتلتقطه الدوائر الصهيونية وتضعه أمام المحاسبة بعد تعبئة الرأي العام ضده لسنوات عديدة. والقضية ليست إهانة صحفي وإنما في مواقف العمدة وآرائه التي فضحت الصهاينة ووجهت لهم ضربات سياسية وإعلامية قاسية.. عبر انتقاداته اللاذعة لأداء الحكومات الصهيونية، خاصة حكومة شارون وهجومه الشديد على المشروع الصهيوني في فلسطين، ومعارضته المتواصلة للغزو الغربي للعراق، ودفاعه المشرف عن الدكتور يوسف القرضاوي وإصراره على استضافته في لندن رغم أنف الإعلام الصهيوني الذي حاول تشويه مواقف الشيخ. وحتى نتذكر فقط مواقف الرجل الكبيرة أتوقف أمام بعض مقالاته ومقولاته.. ففي مقال له بصحيفة الجارديان البريطانية في 4/3/2005 قال العمدة: « إن رئيس حكومة إسرائيل أرئيل شارون هو مجرم حرب، يجب أن يكون في السجن، وليس في مكتبه. وقد وجدت لجنة كاهان التي شُكلت في إسرائيل أيضاً أن شارون كان مسئولاً عن المذبحة التي جرت في مخيم صابرا وشاتيلا للاجئين» (وقعت عام 1982 وراح ضحيتها 1500 شهيداً). وقال: «التوسع الإسرائيلي يشمل القيام بعمليات تطهير عرقي، فقد تم طرد الفلسطينيين الذين عاشوا على أرض إسرائيل طوال مئات السنين باستخدام العنف المتواصل والإرهاب». وقال: «إن إسرائيل تعرض صورة محرفة للعنصرية والتمييز العنصري ولم يكن اليهود في أوروبا أكثر من عانوا من العنصرية، فمعاناة السود، والآسيويين، والمسلمين أكثر». وفي أغسطس 2005 بثت وكالة الأنباء الفرنسية نقلاً عن صحيفة الجارديان أيضاً قول كين ليفنجستون: «إن حماية العاصمة البريطانية بعد اعتداءات 7 و21 يوليو تتطلب انسحاب القوات البريطانية من العراق». كما كتب ليفنجستون في صحيفة «يسار الوسط» البريطانية قائلاً إن «حماية لندن من الإرهابيين» تتطلب عملاً فعالاً من قبل الشرطة بمساندة «الجاليات»، كما يتطلب «الانسحاب من العراق»، مؤكداً أن «كل ذلك مرتبط بعضه ببعض». أليس هذا الرجل بحق يمثل الضمير الغربي الحي؟ أليست مواقف الكثير من ساسة التطبيع والانهزام في بلادنا تتضاءل خجلاً أمام مواقفه؟ إن إعلامنا أو ساستنا لم يحتفوا بالرجل بل لم يعيروا مواقفه اهتماماً.. وليس ذلك غريباً؛ فالرجل وضع كثيراً من السياسات في مأزق، وكثيراً من الساسة في حرج. مدير تحرير مجلة المجتمع الكويتية