بالرغم من أن أكثر استطلاعات الرأي تفاؤلاً كانت تمنحه التفوق بنسبة لا تتجاوز 45%، إلا أن رأيي قد تغير تمامًا بعد دخولي في دهاليز حزب العدالة والتنمية، ومعايشتي عدة أيام لنائب رئيس الحزب في اسطنبول، عندها تأكدت بأن نسبة الفوز ستتجاوز ذلك، وشعرت بالاطمئنان على مستقبل تركيا. تجربة مثيرة عشتها على مدار أسبوع كامل في اسطنبول، مع فريق عمل "مركز القاهرة للدراسات التركية"، بهدف متابعة مجريات الانتخابات التركية، والتعرف على الأحزاب السياسية من الداخل، الجميل هذه المرة أننا تمكنا من حضور المشهد الانتخابي التركي بكل تفاصيله، بدءًا من مرحلة الدعاية الانتخابية، مرورًا بيوم الانتخاب، وانتهاء بساعات الفرز وإعلان النتائج، ولكن الأجمل من ذلك هو وجودنا ليومين كاملين مع قيادات حزب العدالة والتنمية في اسطنبول، حيث عايشنا التجربة كلها معهم وتعرفنا على أدق تفاصيل عمل الحزب، بل وعشنا لحظة إعلان النتائج مع مسئول العلاقات الخارجية بالحزب في اسطنبول، حيث كانت الفرحة الكبرى بعد إعلان النتائج. العديد من المجلدات يمكن أن نكتبها، ونتحدث فيها عن الدروس المستفادة من التجربة التي عايشناها لحظة بلحظة، ولكن اليوم ستكون البداية مع بعض المشاهدات العامة من الانتخابات، المشهد الأول الذي يستوقف الداخل إلى اسطنبول هو السخونة غير المسبوقة التي عاشتها تركيا في هذه الانتخابات، والتي شهدت حروبًا إعلامية وسياسية، واتهامات متبادلة بين قادة الأحزاب، بل ووصلت في بعض الأحيان إلى استخدام ألفاظ بذيئة بين المرشحين، كان أشهرها هو تهجم (كمال كليجدار أوغلو) زعيم حزب "الشعب الجمهوري"، على والدة "أردوغان" وزوجته، في حين جاء رد الأخير هادئًا، ولكنه موجع أيضًا: (من يريد أن يرى الكذب يمشي على قدمين، فلينظر إلى كليجدار أوغلو)، اللافت للنظر أيضًا أن أغلب الصحف والفضائيات كانت تدعم أحزاب المعارضة -ولاسيما حزب الشعب الجمهوري- في مواجهة حزب العدالة والتنمية، وبدا واضحًا أن هناك رسائل موجهة تبثها وسائل الإعلام للتقليل من إنجازات حزب العدالة والتنمية، والتركيز على السلبيات، ولكن المؤكد أن الإعلام كان في واد، والشارع في واد آخر، فكل من تحدثت معهم من الناخبين الأتراك كانوا يشعرون بالامتنان لانجازات الحكومة، ويتطلعون لمستقبل أفضل في ظل قيادة حزب العدالة والتنمية، كانت وسائل الإعلام التي لا يزال يسيطر على غالبيتها العلمانيين والقوميين، تقود الحملة ضد الحكومة، وتمتلئ الفضائيات بأصحاب الصوت العالي، الذي ينددون بالبرجوازية الإسلامية، التي ظهرت في تركيا من خلال "أردوغان" وأنصاره، فهم متهمون بأن ثراؤهم يزداد يومًا بعد آخر، في الوقت الذي ينتشر فيه الفقر بين أوساط الشعب التركي، وبينما كانت وسائل الإعلام تقود هذه الحملة، كان حزب العدالة والتنمية يعمل مع المجتمع والشارع بهدوء، ويكفي أن تعرف بأنه خلال الثلاثة أشهر الأخيرة من الحملة الانتخابية، تمكن شباب العدالة والتنمية من طرق باب كل شقة في تركيا، للنقاش مع المواطنين، والتعريف بإنجازات الحزب وخططه للمستقبل، في اسطنبول وحدها بلغ عدد المتطوعين من شباب الحزب الذين قادوا حملة طرق أبواب المنازل والمؤسسات أكثر من 300 ألف شاب، مقسمين على مجموعات مكونة من تسعة أفراد. وبالرغم من الأجواء الساخنة للانتخابات، إلا أن الشكل الراقي والمتحضر للدعاية الانتخابية كان حاضرًا في المشهد بقوة، ولا تستطيع أن تخفي إعجابك بالمظاهر الجمالية التي أبدعت مختلف الأحزاب في إخراجها، ولكن اللافت للنظر هو الحجم الهائل لدعاية حزب العدالة والتنمية مقارنة بالأحزاب الأخرى، لا تكاد تمر في أحد شوارع اسطنبول إلا وتجد تلك اللافتة البرتقالية التي تحمل شعار المصباح الكهربائي كرمز للحزب، بالإضافة إلى الشاحنات المتنقلة، واللافتات العملاقة التي تغطي المباني بالكامل، والتي وصل عددها إلى 500 لافتة في اسطنبول وحدها، وقد عرفنا من نائب رئيس الحزب باسطنبول أنه كان من المفترض أن يدفع الحزب إيجار تلك اللافتات، إلا أن ملاك العقارات كانوا يتسابقون حتى تغطي دعاية الحزب مبانيهم، تقديرًا منهم لجهود الحكومة، كل هذه اللافتات العملاقة تحمل صورة "أردوغان" ومكتوب عليها جملة واحدة: (الهدف 2023، ليستمر الاستقرار، وتتطور البلاد) بينما كان شعار حزب الشعب الجمهوري هو: (فلنلتقط الأنفاس) في إشارة إلى حاجة تركيا إلى التخلص من حكم حزب العدالة والتنمية المستمر منذ 9 سنوات، كما كان من الملحوظ عدم وجود أي لافتة تحمل أسماء للمرشحين، في مقابل تواجد قوي لشعارات الأحزاب وألوانها المميزة، وهذه إحدى مميزات العمل الحزبي القوي الذي تعيشه تركيا، في ظل مناخ ديمقراطي منذ فترة طويلة. المشهد التالي في الانتخابات كان حاضرًا في تمام الساعة السادسة من مساء السبت، وهو اليوم الذي يسبق الانتخابات، ففي تلك اللحظة توقفت كل فعاليات الدعاية الانتخابية، وكان المدهش هو الالتزام الكامل من جميع المرشحين والأحزاب، في الساعة السادسة وخمس دقائق -وكنت حينها في ميدان تقسيم الشهير باسطنبول- شاهدنا عمال البلدية بالمدينة يقومون بإزالة كل أشكال الدعاية لجميع المرشحين بلا استثناء، لنجد أنفسنا في يوم الانتخابات من دون أي دعاية انتخابية، يوم هادئ تمامًا، أتحداك أن تشعر فيه بأي من مظاهر الانتخابات الصاخبة التي تعودنا عليها في عالمنا العربي، زرنا العديد من المقرات الانتخابية، وتأكدنا بالفعل من أنه لا يوجد من يخالف القوانين المعمول بها، وحتى المدارس التي زرناها كمقرات للانتخاب، لا يوجد عليها لافتة واحدة لأي من المرشحين، لا بد أن تصاب بالدهشة من حجم الهدوء والانسيابية في دخول وخروج الناخبين إلى اللجان الانتخابية، لا توجد طوابير على الإطلاق، والفضل في ذلك يعود إلى اللجنة المشرفة على الانتخابات، التي قامت بجهود كبيرة في السنوات الأخيرة، بهدف إعادة ترتيب كشوف الناخبين وأماكن تصويتهم، ليصبح الحد الأقصى لعدد الناخبين في كل صندوق هو 300 ناخب، وعلى الرغم من وجود ما يزيد عن 32 ألف صندوق انتخابي في اسطنبول وحدها، إلا أن كل فصل مدرسي لا يضم أكثر من صندوق واحد، وكان ذلك سببًا مباشرًا في ارتفاع نسبة التصويت العامة في الانتخابات، التي سجلت مستوى قياسيًا وصل إلى 88%، لأن يوم الانتخاب كان بمثابة نزهة لأفراد الأسرة. ويبقى السؤال الأهم الآن عن الأسرار التي أدت للنجاح الساحق لحزب العدالة والتنمية، للمرة الثالثة على التوالي؟ وكيف تمكن الحزب من التغلغل في الشارع التركي، والحصول على تأييد واحد من كل اثنين من المواطنين الأتراك، أيًا كانت انتماءاتهم وميولهم الدينية والسياسية؟ رحلة في دهاليز حزب العدالة والتنمية نكشف عن تفاصيلها في مقال الأسبوع القادم إن شاء الله. [email protected]