السلفيون يرددون دائما ماهية منهجهم أنه العمل بالكتاب والسنة بفهم سلف الأمة، ويؤصلون لهذا التعريف وينظرون له، ويعلنون أنهم دعوة لا تنظيم ولا جماعة، والإخوان مهتمون بعرض بضاعتهم للناس من لدن مرشدهم الأول –رحمه الله- إلى يومنا هذا، حيث ضمن الإمام البنا –رحمه الله- في رسائله رسالة بعنوان: (إلى أي شيء ندعو الناس) وعرض بشمولية الدعوة فقال: "نحن دعوة سلفية وطريقة سنية وحقيقة صوفية وهيئة سياسية وجماعة رياضية ورابطة علمية ثقافية وشركة اقتصادية وفكرية اجتماعية ....." أه. والإسلاميون عموما لهم مرجعية واحدة يحتكمون إليها ويحاجون بها. لكن الوقوف على تحديد تعريف دقيق لليبرالية من الصعوبة بمكان؛ فالغموض يكتنف المصطلح فيصعب تحريره، ويحيط بالمفهوم فيستحيل تحديده، وذلك بسبب تعدد جوانبها، وتطورها من جيل إلى جيل، فضلا عن تعدد المصادر، وفقدان الثوابت وعدم تحديد المرجعية. يقول "دونالد سترومبرج": "والحق أن كلمة الليبرالية مصطلح عريض وغامض، شأنه في ذلك شأن مصطلح الرومانسية، ولا يزال حتى يومنا هذا على حالة من الغموض والإبهام. وتقول الموسوعة البريطانية: "ونادرا ما توجد حركة ليبرالية لم يصبها الغموض، بل إن بعضها تنهار بسببه". ويقول رسل: "الليبرالية تسمية أقرب إلى الغموض، يستطيع المرء أن يدرك في ثناياها عددا من السمات المتميزة". ويقول الدكتور عمرو حمزاوي: "أما تعبير الليبرالية، فهو تعبير خادع" فهل يعني ذلك الليبرالية بالمفهوم الأوروبي أم الأمريكي؟ أم أنه يعني إحياء التقاليد الليبرالية في السياسة العربية التي ازدهرت في مصر، والمشرق العربي من عشرينيات إلى أربعينيات القرن الماضي؟. ويقول حمزاوي في مقال له نشر عام 2007م عن الأحزاب العلمانية أنها تجد صعوبة حتى في تحديد هويتها الخاصة بوضوح. ويؤكد حمزاوي "غياب الهوية الواضحة عن مجمل الأحزاب العلمانية". ويقول الأستاذ وضاح نصر في الموسوعة الفلسفية العربية: "تبدو بلورة تعريف واضح ودقيق لمفهوم الليبرالية أمراً صعباً وربما عديم الجدوى. وفي حال تحديد الليبرالية نجد أن هذا التحديد لا ينطبق على عدد من الفلاسفة والمفكرين الذين سيموا بسمة الليبرالية. وقررت موسوعة لالاند الفلسفية الالتباس الحاصل في مفهوم الليبرالية؛ فجاء فيها "نرى من خلال التعريفات السابقة مدى التباس هذا اللفظ. ومما يزيد في الالتباس استعماله الطارئ المتداول في أيامنا للدلّ على الأحزاب أو النزعات السياسيَّة". وفي الموسوعة العربية العالمية: "وتعتبر الليبرالية مصطلحاً غامضا؛ لأن معناها وتأكيداتها تبدَّلت بصورة ملحوظة بمرور السنين". ويقول الدكتور يوسف القرضاوي في كتابه "الحلول المستوردة": "وأمثال هذه المصطلحات التي تدل على مفاهيم عقائدية ليس لها مدلول واحد محدد عند الأوربيين، لهذا تفسر في بلد بما لا تفسر به في بلد آخر، وتفهم عند فيلسوف بما لا تفهم به عند غيره، وتطبق في مرحلة بما لا تطبق به في أخرى، ومن هنا كان اختلاف التعريفات لهذه المفاهيم , وكانت الصعوبة في وضع تعريف منطقي جامع مانع يحدد مدلولها بدقة . حتى اشتقاق كلمة "ليبرالي" نفسها اختلفوا فيه :هل هي مأخوذة من (ليبرتي) التي معناها الحرية كما هو مشهور أم هي مأخوذة من أصل أسباني؟" ويقول الدكتور الطيب بوعزة في كتابه "نقد الليبرالية": الحديث عن الليبرالية بوصفها نمطا جاهزا في إدارة الشأن السياسي والاقتصادي يتجاهل أنها ليبراليات عديدة وليست واحدة، وأن تناولها على هذا النحو من التعميم، سواء رفضا أو قبولا، هو تناول يسقط في مزلق التعميم فضلا عن الخلط والالتباس. أه. ويقول: إن رسم أي دلالة كلية لليبرالية يجب أن يضع في الحسبان وجود اختلافات معرفية ونظرية تصل أحيانا إلى درجة التناقض بين منظريها، ومن ثم فإن أي تسطير لدلالة كلية جامعة هو مجرد اختزال ينبغي أن يحترس من أن يصبح الشجرة التي تخفي الغابة، فنسقط في مأزق الأحادية ونغفل عن تعددية الرؤى واختلافها حتى تجاه المفاهيم المشتركة التي تشكل أساس المذهب. فلابد أن نعي أن الليبرالية من حيث وجودها النظري والفلسفي تشهد تباينات تصل أحيانا إلى درجة الاختلاف الشديد بين الرؤى، فالفكر الليبرالي عند جون لوك –مثلا- يتمايز عن ليبرالية ماديسون، وليبرالية فريدريك هايك تختلف عن ليبرالية تيكوفيل، والليبرالية بمنظورها التحرري الإطلاقي مع فريدنان أو بوشانان أو نوزيك تختلف بل تناقض الليبرالية بمنظورها الكينزي ... إلخ. أه. فليت شعري إلى أي ليبرالية ينزع الليبراليون العرب والمصريون؟ هل هي اللوكية (نسبة إلى جون لوك)؟ أم الروسووية (نسبة إلى جان جاك روسو)؟ أم الملّية (نسبة إلى جون ستوارت ملْ)؟ أم إلى غير هؤلاء؟. وبين كل هذه الليبراليات تناقض يحير العقول، تناقض بين أفكار الفلاسفة المختلفة، وتناقض بين الأفكار في ذهن الفيلسوف الواحد، وتناقض بين الفكرة والشخص الحامل لها من حيث مطابقة السلوك الشخصي للفكرة التي ينادي بها، فعلى سبيل المثال (جان جاك روسو) صاحب (العقد الاجتماعي)، هو هو جان جاك روسو الذي يعتنق التمييز العنصري ويحقر البشرة السمراء ويعتقد ما اعتقدته الكنيسة الأوربية في العصور الوسطى أن الروح الطيبة النقية لا يمكن أن تحل وتسكن في جسد الزنجي الأسود الخبيث -(قارن ذلك باعتقادنا أنه "لا فضل لعربي على أعجمي ولا أبيض على أسود إلا بالتقوى وأن الناس سواسية كأسنان المشط")-، كما أن ثمة مفارقة ثانية بين (جون لوك) المنظر القائل بحرية الفرد الإنساني، وبين لوك النخاس تاجر الرقيق الذي يمارس الاستعباد ويبرره. وصدق الله القائل: (قل لو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا). والشاعر العربي يثمن القدوة القويمة، ويعيب غيرها، فيقول: أعمى يقود بصيرا لا أبا لكم *** قد ضل من كانت العميان تهديه ويقول آخر: إذا كان الغراب دليل قوم *** أناخ بهم على جيف الكلاب هذا، وإذا رجعنا إلى الطنطنة الليبرالية الدءوب المتمثلة في تعريف المذهب بالحرية، ومساواة الفكرة مع المثال، واحتكار المثال من دون الناس، وجعل الحرية هي المبدأ والمنتهى وهي الباعث والهدف، فإننا بحاجة إلى النظر في ماهية هذه الحرية ومفهومها، فالحرية –أيضا- كانت ولا زالت مفهوما عاما لمثل منشود لعامة الناس، بيد أن الناس يتنازعون في حدوده وضوابطه، وهذا ما جعل الفيلسوف (هيمون) يتمنى أن توضع الليبرالية في مقابل النظرية الانفلاتية، فتصبح نظرية أخلاقية وسياسية تتوق إلى حرية الفرد أيما توق، وتحدّ في الوقت نفسه من المطالبة أو الحصول على هذه الحريات عندما تغدو إباحيات مضرة بالآخر. أه. فقط عندما تكون مضرة بالآخر، فالزنا واللواط عن تراض يختلفان عن الاغتصاب، ففي قوانين الأحوال الشخصية المعمول به -في مصر- إلى اليوم لا يحق رفع دعوى الزنا إلا للزوج، وإذا أسقط الزوج الدعوى سقطت، والزنا عن تراض في الأماكن الخاصة لا يعاقب عليه القانون ولو شهد الشهود وقامت البينة (الحلوة راضية وأنا راضي مالك ومالنا أنت يا قاضي). عجيب هو كلام هيمون! ليبرالي بحت كاره لمبدأ الحلال والحرام، سيما إذا أضفناه إلى المفهوم الفلسفي لهذا المذهب الفكري وهو الحرية المطلقة التي لا تحدها الحدود ولا تمنعها السدود إلا ما كان فيها تجاوز لحريات الآخرين على قاعدة (تنتهي حريتك حيث تبدأ حريات الآخرين). وهذا مفهوم يصطدم مع موروث المجتمع المسلم –مثلا- حين يحرم الخمر والزواج المثلي ونحو ذلك مما يدخل في صميم الحرية الشخصية المنتهية حيث تبدأ حريات الآخرين، وعلى هذا المبدأ أباحت إحدى الليبراليات المصريات على شاشة التلفاز شرب الخمر واكتفاء الرجال بالرجال والنساء بالنساء، وأباح عمرو حمزاوي زواج المسلمة بالنصراني، وسمعنا من تنادي بإلغاء تعدد الزوجات، والتسوية بين الجنسين في الميراث، ومساواة شهادة المرأة بشهادة الرجل، وغير ذلك من الطوام الليبرالية. وهذا غيض من فيض، يدفعني إلى القول صراحة أن الليبراليين العرب في ورطة حقيقة، فهم بين مطرقة تقديس الوافد الغربي الممثل في مفهوم الحرية مطلقة أو مقيدة بقيد غير إسلامي، والمصطلح الفلسفي لليبرالية، مع ما في ذلك من التناقض والغموض الذي سقناه آنفا؛ وبين انتسابهم للإسلام الذي يضبط الحرية بقيود من الشرع ويقف على محاجة بيضاء مناقضة لمبادئ الليبرالية كليا وجزئيا. [email protected]