تداعي المثقفون والمفكرون ، والإعلاميون العرب ، مضافا إليهم الممثلون للمجتمع المدني العربي ، تداعوا جميعا إلى قبة المعلم التاريخي الثقافي ، بمكتبة الإسكندرية ، ليتدارسوا واقعهم بجميع جوانبه ، وليشهدوا منافع لهم . قد انتظمت الأجيال العربية على اختلاف أزمنتها وفئاتها الاجتماعية في حوار ثقافي معمق وشامل اتخذ له موضوعا كبيرا هو "الإصلاح العربي" . والإصلاح العربي في قاموسنا السياسي اليوم مقولة فلسفية كبيرة ، مثقلة بالمعاني والدلالات ، وما تزال تبحث لها عن مبنى تستقر فيه وعن معنى يتفق الفاعلون عليه ، لذلك يثير المنشغلون بالفكر العربي اليوم مجموعة من الأسئلة الحيرى ، يحاولون إيجاد أجوبة مقنعة لها ، ومن هذه الأسئلة . هل الإصلاح العربي ، الذي نلوح بشعاره وفد اختلف عما ألفه فكرنا ، وابتعد عما نادى به روادنا ، هل هذا الإصلاح قضاء وقدر لا نملك له ردا ، ولا نستطيع له صدا ؟ أم هل هو الإلهام العولمي الذي لا اجتهاد معه ، فينزل علينا نزول القوانين الفوقية التي تطالبنا كالأوامر العسكرية بالتطبيق دونما نقاش أو تعليق ؟ إن هذا هو الانطباع الذي تملكنا عندما انتظمنا في عملية البحث عن المنهج السديد دون أن نسأل عن أي إصلاح نريد ؟ إن قصارى ما حاولنا الوصول إليه في حوارنا الإصلاحي هو البحث عن أي طريق أنجع لتحقيق الإصلاح ، هل هو الإصلاح النابع من داخلنا أم الإصلاح المفروض من خارجنا ؟ لقد وصلنا إلى قناعة وهي أن الإصلاح المنشود لنا ، هو الإصلاح الشمولي الذي يمس كل جوانب حياتنا السياسية ، والاقتصادية والثقافية ، وحتى الدينية .. وإنه من الخير لنا أن نبدأ الإصلاح بالتغيير الذاتي الداخلي فنتفادى الصدمة القادمة أو الضربة القاضية كما فعل بالعراق ، وكما يمكن أن يفعل بسوريا وإيران والعراق .. وأخواتها لذلك وجدنا المثقفين العرب الذين أوكل إليهم أمر هندسة الإصلاح العربي ، وجدناهم مطوقين بالأسوار الثقافية ، مكبلين بالطوق الفكري الذي ضرب على عقولهم ، حتى لا يعوا واقع الذات الحضارية المغلولة . إنه بالرغم من كل هذه الإعاقات كان الحوار جادا ، وعميقا ، وجريئا ، يحاول مزج أسئلة الاستفهام بعلامات التعجب . فالإصلاح كما نفهمه نحن لا كما يراد لنا أن نفهمه هو منتج الانعتاق من الطوق الفكري ، وهو محاولة التحرر من العبودية للآخر وهنا تكمن جوانب الضعف فينا بعد تشخيصها والبحث لها عن المرهم المصنوع من أعشابنا الطبيعية لا في المخابز الأجنبية . فعندما ندعو إلى العودة إلى الذات الحضارية بجميع مقوماتها نكون قد عملنا على (صلاح الإصلاح في واقعنا إذ ليس من التقوقع داخل الذات ولا من المعاداة للإصلاح الدعوة إلى البدء بالإصلاح المنبثق من صميم الذات العربية في بعدها الحضاري الإسلامي . إن الإصلاح العربي كما نفهمه ، وكما يجب أن يكون هو حب الحب ، القائم على التسامح والتصالح ، وهو معاداة العداوة باقتلاع جذور الحقد من القلب وبذور الضغينة من العقل وتضييق الفجوة بين الحاكم والمحكوم . يجب أن نركز في فقهنا الحضاري على أن الدعوة إلى إصلاح نفسي ، ومجتمعي معناه أن ننشد في الكون ترانيم الروح ، وأن نعزف للقلب والعقل ألحان ذوقنا وإلهامنا ، فمأساة المجتمع العربي اليوم أنه يحمل عقولا مظلمة ، تفتقر إلى مشكاة النور الحامل لمصباح الإيمان .. ذلك أن الإصلاح الحقيقي كما فهمه روادنا يبدأ بإزالة صدأ القلب ، وفك الانغلاق عن العقل ، وتمزيق غشاوة التبلد ، وهيهات أن يحمل عقل مظلم جسما متحرر ومنيرا . إن هذه التراكمات التي استبدت بالواقع العربي قد أدت إلى نتيجة خطيرة جدا هي ما يعانيه الفعل العربي ، بسبب تلوثه بفيروس داء فقد المناعة الحضارية ، والاستسلام لقابلية الإعاقة عن الإبداع مع ما ينتج عن ذلك كله من تذبذب داخل فقه المعاناة . إن الإصلاح العربي في مظهره ومخبره قد تحول إلى سلاح ذي حدين ، فهو إما أن يتحدد فيتجدد ، ويمكن من التحليق بكل حرية وسط فضاء خال من التلوث ، وإما أن يكون بمثابة الحزام المصاغ من المتفجرات فيكون في ذلك قضاء عليه وعلى من حوله . هذه الخواطر والتأملات هي التي كانت هاجس رجال الفكر والثقافة في المجتمع العربي ، وقد جاءوا يستلهمون من جرح معاناتهم ، لوحات وصورا ، يرسمون عمق الذات العربية الجريحة فشرحوا وجرحوا ، من شدة ما يحسون به من ثقل المسؤولية وما يكابدونه من عجز الأداة الرسالية . تشعبت إذن في وعي المثقف العربي اليوم مناحي المعاناة ، فلم تعد تقتصر على جانب دون آخر أو على فئة دون أخرى .. إنها معاناة يطبعها التخلف في أعمق دلالاته والتخلف كما يقول فقهاء الحضارة : كل لا يتجزأ ، فهو إذا أصاب عضوا من الجسم تداعى له سائر الجسم بالألم والأسى . إن تخلف المجتمع العربي ، وباء شمل كل القطاعات ، فهو يتجسد في هذا الشباب المنسلب ، المغرد خارج السرب ، وهو يتجلى في عقل هذه المرأة العربية الممزقة بين العقل والعاطفة ، النزاعة إلى التطور على أنغام اللحن الغربي فتصدها نكهة المشرق المرتبطة بالتراث والأصالة ، وحفظ الذات . إنك تصطدم في كل مجالات الحياة العربية بهذا التمزق وهذه الازدواجية التي تدفع بك إلى نشيد التغيير في أوسع صوره فيمنعك من ذلك أنه تغيير من خارج الذات يرفضه الجسم العربي لأنه مصاغ من جسم غريب في مظهره . ولقد عجبت والله لمن يحشد أفضل الطاقات ويعبئ خيرة الكفاءات في محاولة لإصلاح نمط حياة الفلاح الريفي الفقير ، أو العمل على تغيير لغة الطفل في المدرسة ومنطق معلمه في التفكير ، كما تساءلت عن جدوى الإلقاء بمنهج إصلاحي يعمل على إخراج المرأة العربية من حضن دفئها الأسري واستقرارها العائلي ، ويدعوها إلى شارع ملوث ، بكل الآفات دونما عدة أو تحضير .. تلك لعمري هي علامات الاستفهام والتعجب التي يخرج بها الراصد لعملية الإصلاح العربي ، فلا يجد لها ردا شافيا أو جوابا كافيا .. وأخشى ما نخشاه من عواقب أن يحكم علينا زماننا بأن نعيش كالدجاج المحاصر في الخم ، يمكن القضاء عليه بمجرد إشاعة عن وجود انفلونزا الطيور ، يطلقها الثعالب المكلفون بحراستنا ، وتلك هي أوخم العواقب . [email protected]