عرفنا في المقال السابق الاختلاف بين البيعة السياسية أو بيعة الإمام أو البيعة العامة الواجبة للخليفة- إن وجد- وبين بيعة العمل التي تُعطَى للكيانات المختلفة العاملة للإسلام، حيث أن بيعة العمل لا تعدو أن تكون عهدا على عمل مشروع كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الإصلاح وغير ذلك من أعمال الخير.. ومن خلال ذلك عرفنا أنه لا يجوز إسقاط نصوص البيعة العامة ولا نصوص وجوب لزوم الجماعة على تلك الكيانات، مما ينقلنا مباشرة إلى سؤال التمييز بين دعوة الإصلاح ودعوة الإسلام، حيث لا يشك أحد في أن مصطلح جماعة المسلمين أو جماعة الإسلام، لا يُطلق اليوم إلا على عموم امة الإسلام، وان جميع الكيانات والجماعات الدعوية إنما هي دعوات إصلاحية غايتها دعوة المسلمين إلى التمسك بتعاليم الدين، والتشبث بالقيم والأخلاق والمبادئ الإسلامية العظيمة، وتوعية المسلمين بحقيقة شمول شريعتهم، ووجوب إتباع هدي نبيهم، وهي ولا شك دعوات إصلاحية مشروعة ما تعاونت على البر والتقوى في إطار المقاصد الشرعية تطبيقا لقوله تعالى(وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ)2المائدة، وقوله تعالى (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)104آل عمران، وحديث النبي صلى الله عليه وسلم"" والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهوْن عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عذابا من عنده ثم لتدعنه ولا يستجاب لكم". رواه الترمذي .. ورغم هذا الوضوح في التمييز بين دعوة الإسلام ودعوة الإصلاح أو الجماعات الإصلاحية والأمة الإسلامية عند الجميع، والذي يدل على انه يجوز تعدد دعوات وجماعات الإصلاح بتعدد الرؤى الإصلاحية ذاتها، وبالتالي تكامل عمل هذه الهيئات لتحقيق هدف واحد أسمى "هو الإصلاح"، بحيث تحقق فيما بينها معنى اختلاف التنوع وليس اختلاف التضاد، ومن ثم جواز انتماء فرد لأكثر من كيان إصلاحي في حدود استطاعته بما لا يخل بما عليه من التزامات وواجبات شرعية تجاه كل كيان، وقناعة أعضاء هذه الكيانات بعدم التميز عن سائر المسلمين من حوله بشيء، إنما هو محتسب دعوته الإصلاحية وانطلاقه في دعوته وجهاده وبلائه حسبة لله تعالى.. وبذلك لا يفرّق ولا يقسم الأخوة الإسلامية الواجبة بقوله تعالى:( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْۚوَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)10الحجرات، (وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً )103آل عمران، إلى أخوّة خاصة لأعضاء فصيله الدعوي وأخرى عامة لسائر المسلمين، ويرتب على ذلك حقوقا وواجبات بطريقة مغايرة للفهم الإسلامي المستقيم.. وأن كيان الجماعة الدعوية الإصلاحية نفسه ما هو إلا وسيلة من وسائل الدعوة الإصلاحية يحقق بها تنسيق الجهود وتكامل الطاقات، وحشد الإمكانات، وتقسيم العمل وتعظيم الأداء، وأن هذا الكيان الدعوي ليس غاية يُقصد في حد ذاته.. ورغم أن هذه الأدبيات العامة التي تحكم تصور هذه الكيانات الدعوية الإصلاحية، والتي تمثل الخطاب الإعلامي لها في الكتب والدوريات والصحف والميديا، يظل الخطاب الداخلي متأثرا بقراءة تسقط أحداث السيرة النبوية المشرفة على فريق دون آخر "أعضاء الكيان أو الجماعة" باعتبارهم الصف المسلم، وتكثر مصطلحات مثل "الصف" بظلاله وإيحاءاته، دون تنويه ومراعاة أن صف الصحابة رضوان الله عليهم مع النبي صلى الله عليه وسلم، كان هو كل مجموع المسلمين في ذلك العهد وبالتالي تطور مفهوم الصف مع رسول الله إلى مفهوم الأمة المسلمة، وأشار المولى عز وجل إلى مصطلح الأمة في أكثر من موضع في القرآن الكريم منها:( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ)110آل عمران، وأن السيرة النبوية هي ميراث الأمة جمعاء وليست ميراث جماعة من الجماعات أو كيان من الكيانات.. إن هذا التصور المستقيم والمنسجم مع المنهج الإسلامي لتعريف جماعة الإصلاح ووظيفتها وأدوارها، يحقق لنا المرونة الفكرية عندما ننتقل للحديث عن إشكالية حتمية التنظيم ومدى أولويته في العمل الدعوي.. وتعقيبا على هذا التمييز اللازم بين جماعة الدعوة والإصلاح وبين جماعة الإسلام – التي هي الأمة الإسلامية- وكتطبيق عملي عليه، أرجو أن نغير بعض المصطلحات تحريرا لها وصيانة من الخلط والغموض في الأذهان والتصورات.. مثال على ذلك: 1 – العمل الإسلامي العمل الدعوي أو العمل الإصلاحي 2 – الحركة الإسلامية الحركة الإصلاحية 3 – التيار الإسلامي التيار الإصلاحي 4 – الجماعات الإسلامية الجماعات الإصلاحية 5 – الإسلاميون الإصلاحيون 6 – تيار الإسلام السياسي تيار الأصالة أو تيار المحافظين.. أو تيار الإصلاح السياسي.. فنحن نؤمن بالإسلام دون تجزئة إلى إسلام عقائدي وآخر أخلاقي، وثالث اجتماعي، ورابع سياسي، وهكذا دواليك.. إنما هو إسلاما واحدا ينتظم شؤون الحياة كلها.. ولا يخفى علينا أن نصف هذه المصطلحات أطلقها في الأساس إما الإعلام الغربي ، وإما الإعلام المناهض للتيار الإصلاحي، وهي على هذا ليست مصطلحات شرعية واجبة الإتباع .. ورغم أن القاعدة تقول أنه لا مشاحة في الاصطلاح، إلا أن تحرير المصطلحات وضبطها يؤدي إلى تحرير العقول من أسر الأفكار الضبابية الحائرة، ويؤدي إلى تحقيق الوضوح والشفافية..