د. صلاح عز بعد أربعة مقالات نشرت لي في هذا المكان عن أزمة الرسوم الدنماركية ، لم يكن في نيتي العودة إلى هذه القضية ، وبدأت بالفعل في الكتابة عن فوز حماس بالإنتخابات الفلسطينية. ومنذ مشاهدتي لبرنامج (الشريعة والحياة) على فضائية الجزيرة الذي هاجم فيه عالم المسلمين الأول الشيخ الفاضل د. يوسف القرضاوي مبادرة الداعية عمرو خالد حول السفر إلى الدنمارك مع مجموعة من الدعاة والشباب بهدف محاورة الدنماركيين حول ما جرى ، ومرورا بالحملة الإعلامية الشعواء التي إنطلقت في الصحافة والانترنت والفضائيات ضد عمرو خالد تتهمه بطيف واسع من النقائص بدءأ بالسذاجة وانتهاءا بالعمالة ، وأنا أسعى إلى تجنب الخوض فيما بدا لي وكأنها فتنة فرقت المسلمين إلى معسكرين. وظل هذا هو موقفي إلى أن طالعت مقال الأستاذ فهمي هويدي (الشرق الأوسط 8/3 بعنوان "إلى عمرو خالد: عد إلى أهلك وأمتك") وهو ما يدفعني اليوم مرة أخرى إلى تأجيل الحديث عن حماس وبالذات عملية إسرائيل الإرهابية الأخيرة في أريحا ، والتواطؤ البريطاني الأمريكي الفاضح معها. لقد فوجئت بما جاء في مقال الأستاذ هويدي ، ووجدت نفسي لأول مرة منذ عشرين عاما مختلفا معه في الرأي. وأدركت فورا أني ربما أكون مذنبا لو أصررت على الاستمرار في تجنب الموضوع ، لأن من حق الأستاذ هويدي عليّ أن أصرح له بأن مقاله هذا يناقض ما تعلمته من كتاباته على مدار العقدين الماضيين ، حيث بدأت القراءة له بعد عودتي من الولاياتالمتحدة عام 1986، ومنذ هذا الحين وأنا أواظب على قراءة مقالاته في الأهرام والصحافة العربية ، حتى المحظور منها. فهو كاتبي ومعلمي الأول وأفضاله عليّ هو والدكتور القرضاوي والأستاذ الكبير د. سليم العوا هي التي تفرض عليّ إسداء النصح لهم ، أو بالأصح لفت نظرهم إلى ماهو غائب عنهم. قد يتساءل البعض (ومن أنت حتى تسدي النصيحة لهؤلاء الثلاثة الكبار؟)، ولكن ألم يفعلها من قبل من هم في وزني مع أبي بكر وعمر رضي الله عنهما؟ لقد إستنكر شيخنا الكبير د. القرضاوي مبادرة خالد ، ووصفها بأنها "قطع للطريق" على غضبة المسلمين ، وأنه لايمثل المسلمين. لم أشأ التعليق بإعلان معارضتي لرأي د. القرضاوي إستحياءا منه وعلى أمل أن ينتهي الأمرعند هذا الحد. غير أن الأمر لم ينتهي ، وتفاقمت الأمور حتى إستغل البعض ما جرى لمحاكمة نيات عمرو خالد وتسفيه مواقفه والحط من قدره. ومع نشر مقال هويدي تساءلت : ألا يكون مذنبا من يكتم علما ؟ أليس محتملا أن الثلاثة الكبار نظروا إلى الأزمة من عدة جوانب ، وفاتتهم زاوية نظر هامة ، وهي تلك الواضحة أمامي بناء على تجربة 20 عاما من معايشة العقلية الغربية ومطالعة يومية لصحف أميركا وبريطانيا؟ كانت التهمتان الأساسيتان في حديث د. القرضاوي لعمرو خالد هما : أنه يخرج عن الإجماع ويقطع الطريق على غضبة المسلمين. ولا أطيل في الرد على التهمة الأولى لأن خالد نفسه رد عليها في برنامج (القاهرة اليوم) بالأمس ، وكذلك آخرون في (الأهرام). وخلاصة الرد هو أنه عندما يكون في فريق المؤيدين للمبادرة أمثال د.محمد سعيد رمضان البوطي والشيخ عكرمة صبري إمام المسجد الأقصى ومفتيا مصر وسويا وآخرون ، فنحن لا نتحدث عن إجماع ، وإنما عن رأيين مختلفين ، وتعددية الرأي والاجتهاد هي من اهم أصول الدين. إنما أتناول التهمة الثانية ، وهي الأهم : قطع الطريق على غضبة المسلمين. لاخلاف على أن الغضب محمود ومبرر عندما يهان المسلم في مقدساته. ولكن السؤال هو كيف نغضب؟ لقد دعا الشيخ القرضاوي المسلمين إلى أن تكون غضبتهم عاقلة. فهل يتناقض ذلك مع ماقام به عمرو خالد؟ هناك من يعبر عن غضبه بالهتاف والصراخ حتى ينفس عن غضبه دون إنجاز شئ. وهناك من يعبر عن غضبه بالتوجه إلى أهل المذنب وهو كاظم غيظه لكي يشرح لهم كيف أخطأ إبنهم الضال ويطلب منهم وضع حد لتجاوزاته. وحتى لو كان الأب هو المذنب فما المانع من التوجه إلى أبنائه (كما هو الحال في بريطانيا وأميركا) ؟ وهناك من يعبر عن غضبه بوضع خطة طويلة الأمد يضبط بها التنفيس عن طاقة الغضب الكامنة فيه يستوعب بها لغة وعقلية المذنب حتى يتمكن من الرد عليه وإفحامه بالحجة والمنطق. إن من يستنكرون على عمرو خالد مبادرته يبدون لي وكأنهم يحملون شعب الدنمارك كله وزر ما جرى (وهذا هو أهم ما فاجأني في مقال هويدي)، علما بأنه لم يذهب هناك للتحاور مع الصحيفة المذنبة ولا مع أي من وزراء الحكومة ، وإنما مع ممثلي شعب الدنمارك. غير أن أسلوب الغضب الذي طغا على الشارعين العربي والإسلامي غلبت عليه الغوغائية .. وهنا كانت الكارثة التي لم يلتفت إلى عواقبها الثلاثة الكبار الذين طالبوا باستمرار غضبة الشارع دون أن تكون لديهم الآلية الضابطة لهذه الغضبة. والنتيجة أن الغوغائية تحولت في صحافة الغرب إلى ذريعة للاستمرار في سب الرسول وإهانة المسلمين حتى لايبدو الامتناع عن ذلك وكأنه "رضوخ لإرهاب الشارع الإسلامي". لقد طالب بوش الحكومات الإسلامية بوضع حد للمظاهرات العنيفة لأنه "لايمكن السماح للغوغاء بفرض إرادتهم".. وهاكم بعض الأمثلة الأخرى من الصحف : "إن غضب المسلمين هو جزء من حربهم الثقافية ضد الغرب".. "إن عدم نشر الرسوم لايعني إلا أن الإسلاميين الراديكاليين إنتصروا في حرب الترهيب ضدنا".. "إن هذه الغوغائية هي أكبر دليل على أن مشاكل المسلمين لا علاقة لها بإسرائيل ولا العراق ولا أفغانستان .. إنهم موبوؤن بالعنف ودينهم عنيف حتى أنهم يثورون ويحطمون لأتفه الأسباب مثل تلك الرسوم الكاريكاتيريه." وكلما إستمرت غضبة المسلمين غير المنضبطة ، توفرت لدى الإعلام الصهيوني والعنصري في الغرب مادة خصبة تمكنه من تصوير الأمور على غير الحقيقة ، وتثبيت السموم في عقول العامة حتى ينقلب علينا الأوربي (كما انقلب الأمريكي قبله) الذي كان يقف بجانبنا في فلسطين والعراق والشيشان. لهذا كان ينبغي علينا أن نضع نهاية لهذه الأزمة. فالرسالة وصلت ، والصحيفة إعتذرت. وحتى إن كان إعتذارها غير صادق ، وتأسف رئيس وزراء الدنمارك غير مقنع ، كان علينا أن نعلن قناعتنا بهما لأن إستمرار الغضبة في غير صالحنا بعد أن تحول إلى سلاح في أيدي الخصوم لاستعداء الرأي العام الغربي علينا. وعندما حاول عمرو خالد أن يخرج من إطار ردود الفعل التي نحصر أنفسنا فيها دائما ، وبادر بخطوة في الاتجاه الصحيح للحفاظ على "حياد المحايدين" الذين يشكلون الأغلبية في المجتمعات الأوربية ، شنت ضده حملة شعواء. نعم إن مكانة علمائنا محفوظة. غير أن المشكلة تكمن في أن علمهم الغزير غير موجود إلا على صفحات الكتب ، وشباب اليوم لا يقرأ. وفي وجود الفضائيات والانترنت يصعب إغراء الشباب بتصفح الكتب بحثا عن كنوز القرضاوي والغزالي وغيرهما. ثم جاء عمرو خالد ، وعرف كيف يصل بحديثه الشيق للشباب عبر الوسيط الإعلامي الوحيد الذي يسهل إنجذابهم إليه (التلفاز) ونقل إليهم كنوز علمائنا الكبار بأسلوب سهل مبسط ، وحقق نجاحات كبيرة. فلمصلحة من يسعى البعض إلى تحطيمه؟ لم تكن الغوغائية والعجز عن ضبطها هما خطؤنا الوحيد. أخطأنا أيضا في إستخدام كل ما لدينا من أسلحة دفعة واحدة حتى أدرك الأوربيون أن سحب السفراء والمقاطعة هما كل ما نملكه من أوراق. وكانت نتيجة إصرارنا على رفض الاعتذارات والتأسفات والإدانات التي إنهالت علينا من الصحيفة بكل اللغات والحكومة الدنماركية ومسئولين سابقين ومسئولين حاليين في الاتحاد الأوربي وبيان تأسف عليه توقيع آلاف الدنماركيين ..إلخ.. ، ومقابلة كل ذلك باستمرار التظاهر والاحتجاج.. كانت النتيجة هي تأكيد الصورة التي سعى الصهاينة والعنصريين إلى تثبيتها في العقول ، وهي أننا أناس نتعطش للعنف والغوغائية. حاولوا أن يعتذروا بأسلوبهم ، وصممنا على أن يعتذروا بأسلوبنا نحن ، فكانت النتيجة بعد أن وجدوا أنه لافائدة من الاعتذار والتأسف ، وأن المسلمين توحدوا ليس فقط في غضبتهم ، وإنما أيضا في التنفيس عنها حتى خمدت طاقتهم كما هي عادتهم في كل مرة يثورون فيها ، هو توجيه إهانتين تفاقمان من وقع إهانة الرسوم : الأولى كانت في البيان الصادر عن إجتماع وزراء خارجية الاتحاد الأوربي منذ عشرة أيام ، والذي ألقى المسئولية على المسلمين في إثارة أزمة الرسوم وركز على ردود الأفعال (وليس على الرسوم) ، وأدان العنف ضد السفارات والقنصليات. ثم جاءت الإهانة الثانية برفض المدعي العام الدنماركي توجيه أي إتهام للصحيفة الدنماركية المذنبة بزعم أن هذه الرسوم "لا تنتهك القانون الدنماركي". والآن ماذا سنفعل ؟ لقد خمدت الغضبة لأنها إنطلقت بكل طاقتها دون إنضباط ، وفقد سلاح المقاطعة مفعوله لأنه أسئ إستخدامه في الوقت الخطأ والاتجاه الخطأ . الآن من يجرؤ على مقاطعة الاتحاد الأوربي؟ لقد كنت مذهولا وأنا أستمع إلى عدد من الأخوة وهم يصرون على مجموعة من الإملاءات المطلوب من الغرب تنفيذها وإلا إستمرت المقاطعة "حتى تركع الدنمارك". وبدا لي وكأننا قوم أوراق القوة في أيدينا متنوعة ، أو أن لنا كلمة مسموعة في الغرب ، أو نحظى بالحد الأدنى من الهيبة والاحترام اللازمين للإصغاء لمطالبنا. لا أريد تكرار ما قلته في مقالات سابقة. وإنما أقول فقط أنه لوكانت هذه الرسوم أساءت لليهود ، لكان إعتذر إليهم رئيس وزراء الدنمارك فورا على الرغم من أنه لايوجد في القوانين والأعراف الدنماركية ما يجبره على ذلك ولوجد المدعي العام في نفس القوانين ما يبرر تجريم الصحيفة. لا يعني مما سبق أني أتفق تماما مع عمرو خالد فيما يذهب إليه : فهو كان مع مقاطعة الدنمارك ، وأنا ضدها للأسباب التي شرحتها من قبل (يمكن مطالعة المقالات السابقة على موقع حزب الوسط www.alwasatparty.com))) . كما أنه يرى أن القضية الأساسية هي قضية الرسوم ، وأراها في ضياع هيبة واحترام العرب والمسلمين. ولايشير خالد في أي من أحاديثه إلى مسئوليتنا عن جهل الأوربيين بديننا ونبينا عليه الصلاة والسلام. وإن كانت مبادرته قد ساهمت بالفعل في تخفيف حدة هذا الجهل ، فهي ناجحة. وإن كانت ساهمت في الاحتفاظ بحيدة المحايدين وإنقاذ عقولهم من سموم العنصرية ، فهي ناجحة. وإن كانت ساهمت في تجنيد سفراء من شباب الدنمارك يتصدون للدفاع عن قضايانا ، فهي ناجحة. ولكن دعونا لا ننسى أن نسبة كبيرة من العنصريين في أوربا مغرر بهم نتيجة للجهل بنا. وأن علينا أن نعمل ليس فقط على الحفاظ على حياد المحايدين ، وإنما لهدف أبعد وأصعب ، وهو انتزاع العنصرية من العقول ، وهي مهمة ليست سهلة. لم تكن مبادرة عمرو خالد وزملائه مناقضة لأي جهد يقوم به آخرون. وإنما هي جهد محمود يحتاج إلى تكراره في ألمانيا وفرنسا وبريطانيا وأسبانيا ليس فقط لتعريف الأوربيين بحقائق ديننا ونبينا ، وإنما أيضا بحقائق قضايانا ومشاكلنا التي يجري تشويهها في إعلام الغرب. كما خطا د. القرضاوي خطوة كبيرة في الاتجاه الصحيح بإنشاء موقع عن رسولنا الحبيب بعدة لغات . ولكننا نحتاج أيضا إلى خطوات بعيدة المدى ، وأفكار تخطط لعقود قادمة . وفي هذا الصدد أتساءل : إن كان التواصل مع شعوب الغرب أمر حتمي لتخفيف حدة إستعداء هذه الشعوب علينا ، ألا يصح عندئذ المطالبة باعتبار إتقان الإنجليزية فرض كفاية ؟ ألا يعني ذلك أننا في حاجة أيضا إلى تثقيف شبابنا سياسيا ودينيا حتى يتمكنوا من الصمود أمام حجج الصهاينة والعنصريين المليئة بالفخاخ والمصائد؟ نحن في حاجة إلى مرصد إعلامي ، كما شرحت من قبل ، يراقب ما يكتب ويقال عن العرب والمسلمين في الخارج ، ونحتاج إلى إبتداع آلية لضبط الشارع العربي والإسلامي حتى لا يكون مجرد أداة في يد الأعداء يحركونه بأفعال إستفزازية متى شاؤوا. باختصار نحن في حاجة إلى برنامج (صناع حياة) مشتركة مع الأوربيين ننتصر بهم على الاستبداد عندنا وينتصرون بنا على العنصريه عندهم. [email protected]