الدكتور أنور عبد الملك، أحد علماء الاجتماع المصريين، الذين ذاعت شهرتهم عالمياً، ولكنه لم يحظ بما يستحق من تكريم في بلده الأم وينطبق عليه القول المأثور "لا كرامة لنبي في أهله"، أو القول الآخر "إن ذمّار الحي لا يطرب". ومن مآثر د. أنور عبد الملك أنه أول مفكر مصري وعربي يستشرف صعود بلدان شرق أسيا، وذلك منذ ثلاثين عاماً. وهو الذي تنبأ بأن الصين ستكون المنافس الأول للولايات المتحدة في أوائل القرن الواحد والعشرين. ذلك في وقت كانت حلبة المنافسة العالمية محصورة في ذلك الوقت بين الولاياتالمتحدة والاتحاد السوفييتي، مع احتمال بروز اليابان وألمانيا لدخول تلك الساحة في أوائل القرن الحادي والعشرين. ولكن أنور عبد الملك كان من القلائل، وربما أول من خالف هذا الاتجاه بين علماء المستقبليات. ولكن ما يهمنا في هذا المقال هو الإشارة لأحد مآثر أنور عبد الملك العلمية المبكرة، والتي اكتسبته شهرة عالمية في أواخر الستينات، وهو كتابه الذي ظهر بالفرنسية Egypt Society Militarize، وترجم إلى عدة لغات أخرى في حينه، ولكنه منع في مصر نفسها، إلى أن تمت ترجمته إلى العربية في بيروت، تحت عنوان "مصر مجتمع يحكمه العسكريون". إن مناسبة هذا التنويه المتأخر بالدكتور أنور عبد الملك، هو التحقيق الصحفي المتميز للصحفي الشاب سامي عبد الراضي في العدد الخاص من جريدة "المصري اليوم" بمناسبة مرور عامين على صدورها، بعنوان "تقرير الأمن العام.. ممنوع من التداول (8/6/2006)". وكان هذا التقرير السنوي يوثق عدد وأنواع الجرائم، وتوزيعها على محافظات جمهورية مصر العربية. ويؤرخ التحقيق لبداية نشر هذا التقرير على يد حكمدار (مدير أمن) القاهرة، وهو الإنجليزي راسل باشا، عام 1920، أي قبل استقلال مصر بعامين. وكان من حسنات العهد الليبرالي الذي جاء بعد ثورة 1919، واستمر من عام 1923 إلى عام 1952، هو استمرار صدور ذلك التقرير، وتحسينه عاماً بعد عام. بل واستمرت وزارة الداخلية حتى عهدي عبد الناصر (1952-1970) والسادات (1970-1981) في نشر التقرير دورياً، وتوزيعه على المهتمين والدارسين إلى عام 1996، أي حتى خلال السنوات الخمسة عشر الأولى من عهد مبارك. ثم توقفت وزارة الداخلية عن توزيع التقرير على الجمهور أو حتى على المتخصصين من علماء الاجتماع والقانون والإعلاميين، إلا "بإذن خاص مسبق من الإدارة العامة للإعلام بوزارة الداخلية، يحدد فيه مقدم الطلب للإطلاع على التقرير، البيانات التي يريد الحصول عليها، والهدف من حصوله على هذه البيانات". وقد استند هذا الحظر إلى مبرر عجيب هو "حماية الأمن العام". لقد كان عهدي بالتقرير هو العام الدراسي 1957/1958 وأنا طالب بقسم الاجتماع بكلية الآداب، جامعة القاهرة، حيث كنا ندرس مادة عنوانها "علم الاجتماع الجنائي". وكان مطلوباً من كل طالب ورقة بحثية تطبيقية على مصر، أما أخر عهدي فقد كان بعد ذلك بثلاثين عاماً، لورقة بحثية أخرى طُلبت مني لمؤتمر نظمه المعهد الإيطالي للعلاقات الدولية بروما، عن الأمن الداخلي والأمن القومي في بلدان حوض البحر المتوسط. وحينما رجعت وقتها إلى إحصاءات العنف والجريمة التي وردت في تقارير الأمن العام للفترة من 1952 إلى 1996، لفت نظري الارتفاع غير العادي في معدلات العنف خلال سنوات حكم الرئيس حسني مبارك. فإلى ذلك الوقت كان الرجل قد حكم مصر خمسة عشر عاماً بالتمام والكمال. ولكي تكون المقارنة موضوعية فلا بد من حساب المعدلات "وليس حساب مجرد الأرقام الخام". ويتم ذلك كما يعرف الإحصائيون بقسمة الأرقام الخامة على عدد السكان، وتجرى المقارنة على هذا الأساس. من ذلك مثلاً أن عدد سكان مصر عام 1952 كان حوالي 22 مليوناً، ولكنه قفز إلى حوالي 70 مليوناً مع عام 1996، أي أكثر من ثلاثة أمثال في 44 سنة، أي بين بداية عهد عبد الناصر ومنتصف عهد مبارك. فماذا حدث لمعدلات الجريمة والعنف خلال نفس الفترة الزمنية؟ نقول لو أن المجتمع المصري تحسنت أحواله الاجتماعية الاقتصادية السياسية، فلا بد أن ينعكس ذلك إيجاباً على حالته النفسية والروحية، ويكون أحد مؤشرات ذلك هو انخفاض معدلات الجريمة والعنف، أو على الأقل أن تظل المعدلات على حالها دون ارتفاع. فهل هذا ما حدث؟ واقع الحال أننا باستخدام الإحصاءات الرسمية المنشورة في تقارير الأمن العام حتى عام 1996 (حينما حظّرت وزارة الداخلية توزيع التقرير) ونسبتها إلى إجمالي السكان، وجدنا أن معدلات كل أنواع الجرائم قد تزايدت ما بين ثلاثة و15 مثلاً بين عامي 1952 و 1996. وكانت أعلى الأنواع على الإطلاق هي تلك الوثيقة الصلة بالعنف السياسي مثل الإضرابات، والمظاهرات، والاعتصامات، والتخريب والاعتداء على المال العام، والاصطدام بقوات الأمن، أو التفجيرات في الأماكن العامة. وقد ركزنا في دراستنا المذكورة أعلاه على هذا النوع الأخير من سلوكيات أو جرائم العنف. والتي كانت أقصى عقوبة لها هي "الإعدام". وقد قارنا بين متوسط المعدلات السنوية للحقبة الناصرية (1952-1970)، والحقبة الساداتية (1970-1981)، والنصف الأول من الحقبة المباركية (1981-1996)، فوجدنا الآتي: * المتوسط السنوي للحقبة الناصرية 782 * المتوسط السنوي للحقبة الساداتية 1910 * المتوسط السنوي للنصف الأول للحقبة المباركية 2592 وهو ما يعني أن معدل العنف في عهد السادات كان ضعف مثيله في عهد عبد الناصر. بينما في عهد مبارك هو الأعلى على الإطلاق، حيث كان أقل قليلاً من ضعفه في عهد السادات وحوالي أربعة أمثاله في عهد عبد الناصر. ويبدو أن إشارتنا إلى هذه الحقيقة في عدة مناسبات في أواخر التسعينات، ونشرنا لها في عدة صحف ودوريات مع إثبات المرجع (وهو تقرير الأمن العام، وزارة الداخلية بجمهورية مصر العربية) قد سبب إحراجاً للرئيس مبارك، وربما كان هذا هو أحد أسباب حظر السلطات المصرية على تداول التقرير أو حتى الإطلاع على النسخ المتاحة في مكتبة وزارة الداخلية (إدارة العلاقات العامة والإعلام، التي كان قد استحدثها اللواء رؤوف المناوي، دينامو وزارة الداخلية في التسعينات). وقد تأكد لدي رجحان هذا السبب بعد نشر دراستي بثلاث سنوات، بعد القبض عليّ في يونيو 2000، حيث كانت أحد التهم التي تم التحقيق معي فيها هي تهمة "الإساءة إلى سمعة مصر في الخارج، بنشر دراسات تؤثر سلباً على المصالح القومية". ولما استفسرت من المحقق، الذي كان وقتها رئيس نيابة أمن الدولة هشام بدوي، والذي هو الآن المحامي العام، عن فحوى أو أسانيد توجيه هذه التهمة، ذكر ضمن أشياء أخرى تلك الدراسة التي كانت قد نشرت في عدة دوريات دولية. لقد كنت قد نسيت هذه الواقعة، أثناء تحقيق نيابة أمن الدولة معي وزملائي من مركز ابن خلدون، ولكني تذكرتها أثناء قراءتي للتحقيق الصحفي للزميل سامي عبد الراضي في المصري اليوم. كما تذكرت كتاب د. أنور عبد الملك عن مصر مجتمع يحكمه العسكريون. فما هي علاقة هذا بذاك؟ قام في مصر انقلاب عسكري في يوليو 1952. وكان ضمن الأسباب التي ساقها الضباط الأحرار للانقلاب هو هزيمة الجيش المصري في فلسطين. لذلك كان الصراع العربي الإسرائيلي هو أحد الهواجس الرئيسية لانقلابهم، الذي أطلقوا عليه فيما بعد "ثورة يوليو" ولأن جزءاً كبيراً من طاقة نظام يوليو انصرف على تعبئة وحشد المجتمع من أجل هذه المسألة فقد كان لابد أن يسيطر العسكريون على كل مفاصل الدولة وأهم مرافقها. وبهذا المعنى وصفها أنور عبد الملك بأن مصر مجتمع يحكمه العسكريون. وقد تكرّست هذه النزعة التي سماها البعض بالعسكرتاريا عقب كل مواجهة لنظام يوليو مع الخارج حرب السويس (1956)، حرب اليمن (1964-1968)، حرب يونيو (1967)، ثم حرب الاستنزاف (1968-1970)، وحرب أكتوبر 1973. وهو الأمر الذي أدى أيضاً إلى تضخم المؤسسة العسكرية، حتى تجاوز حجمها مليون عسكري. في منتصف السبعينات. وبعد تقلص المواجهة مع إسرائيل، انخفض حجم المؤسسة العسكرية إلى الثلث. ولكن اختفاء أو تقلص حروب الخارج تزامن مع تكاثر احتقان ومواجهات الداخل. مع اشتعال حروب الداخل والعجز عن إدارتها سياسياً لجأ نظام مبارك إلى المواجهات الأمنية فتضخمت المؤسسة الأمنية، ليتجاوز حجمها المليون أي كما كانت المؤسسة العسكرية في قمة حروبنا الخارجية. ومن هنا أيضاً أصبحت وزارة الداخلية في أهمية وزارة الدفاع، حيث أصبحت حروب مصر في عهد مبارك كلها حروباً داخلية. وقد تجلى ذلك في شهور النصف الأول من عام 2006، الذي شهد أربع حروب داخلية مع هذه الفئة أو تلك من أبناء الشعب المصري: الأقباط، والإخوان، والقضاة، وبدو سيناء. ففي كل من هذه الحروب لجأ نظام مبارك لنفس المؤسسة الأمنية، ممثلة بعقلها المدبر (أو سيئ التدبير)، وهو مباحث أمن الدولة، وإلى مخالبها الفتاكة وهي قوات الأمن المركزي. من هنا، وباستخدام نفس المنهج الذي استخدمه د. أنور عبد الملك قبل أربعين عاماً، نخلص إلى أن مصر تحولت من "دولة عسكرية" إلى "دولة بوليسية"، حيث تبدلت حروب نظامها الحاكم في العهد الناصري من حروب مع إسرائيل، إلى حروب في العهد المباركي إلى حروب مع الشعب المصري. ولو ظل تقرير الأمن العام، يصدر سنوياً، كما كان الحال لمدة سبع وسبعين عاماً (1920-1997) لخلص الناس على هذه النتيجة. لذلك لا عجب أن يحظر نظام مبارك نشر وتداول تقرير الأمن العام. فقد رأينا في زمنهم، كما قال نجيب محفوظ (الأهرام مايو 2006) ما لا عين رأت ولا أذن سمعت. فلا حول ولا قوة إلا بالله! [email protected]